-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثامنة عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن اللعينة ذات الدوهي قالت :
أتيت برأسه إليكم لتقوى نفوسكم على الجهاد وترضوا بسيوفكم رب العباد وأريد أن أشغلكم في الجهاد وأذهب إلى عسكركم ولو كانوا على باب القسطنطينية وآتيكم من عندهم بعشرين ألف فارس يهلكون هؤلاء الكفرة .
فقال شركان :
وكيف تمضي إليهم أيها الزاهد والوادي مسدود بالكفار من كل جانب ?
فقالت الملعونة :
الله يسترني عن أعينهم فلا يروني ومن رآني لا يجسر أن يقبل علي فإني في ذلك الوقت أكون فانياً في الله وهو يقاتل عني أعداءه .
فقال شركان :
صدقت أيها الزاهد لأني شاهدت ذلك وإذا كنت تقدر أن تمضي أول الليل يكون أجود لنا .
فقالت الملعونة :
أنا أمضي في هذه الساعة وإن كنت تريد أن تجيء معي ولا يراك أحد فقم وإن كان أخوك يذهب معنا أخذناه دون غيره فإن ظل الولي لا يستر غير اثنين .
فقال شركان :
أما أنا فلا أترك أصحابي ولكن إذا كان أخي يرضى بذلك فلا بأس حيث ذهب معك وخلص من هذا الضيق فإنه هو حصن المسلمين وسيف رب العالمين وإن شاء فليأخذ معه الوزير دندان أو من يختار ، ثم يرسل إلينا عشرة آلاف فارس إعانة على هؤلاء اللئام .
واتفقوا على هذا الحال ثم أن العجوز قالت :
أمهلوني حتى أذهب قبلكم وأنظر حال الكفرة هل هم نيام أو يقظون .
فقالوا :
ما نخرج إلا معك ونسلم أمرنا لله .
فقالت :
إذا طاوعتكم لا تلوموني ولوموا أنفسكم فالرأي عندي أن تمهلوني حتى أكتشف خبرهم .
فقام شركان وحدث أخاه بعد خروجهما وقال :
إن هذا الزاهد صاحب كرامات ما قتل هذا البطريق الجبار وفي هذا القدر كفاية في كرامة هذا الزاهد وقد انكسرت شوكة الكفار بقتل هذا البطريق لأنه كان جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً .
فبينما هم يتحدثون في كرامات الزاهد ، وإذا باللعينة ذات الدواهي قد دخلت عليهم ووعدتهم بالنصر على الكفرة فشكروا الزاهد على ذلك ولم يعلموا أن هذا حيلة وخداع ، ثم قالت اللعينة :
أين ملك الزمان ضوء المكان ?
فأجابها بالتلبية فقالت له :
خذ معك وزيرك وسر خلفي حتى نذهب إلى القسطنطينية .
وكانت ذات الدواهي قد أعلمت الكفار بالحيلة التي عملتها ففرحوا بذلك غاية الفرح وقالوا :
ما يجبر خاطرنا إلا قتل ملكهم في نظير قتل البطريق لأنه لم يكن عندنا أفرس منه .
وقالوا لعجوز النحس ذات الدواهي حين أخبرتهم بأنها تذهب إليهم بملك المسلمين إذا أتيت به نأخذه إلى الملك أفريدون .
ثم إن العجوز ذات الدواهي توجهت وتوجه معها ضوء المكان والوزير دندان وهي سابقة عليهما وتقول لهما :
سيروا على بركة الله تعالى .
فأجاباها إلى قولها ونفذ فيهما سهم القضاء والقدر ولم تزل سائرة بهما حتى توسطت بهما بين عسكر الروم وصلوا إلى الشعب المذكورة الضيق وعساكر الكفار ينظرون إليهم ولا يتعرضون لهم بسوء لأن الملعونة أوصتهم بذلك فلما نظر ضوء المكان والوزير دندان إلى عساكر الكفار وعرفوا أن الكفار عاينوهم ولم يتعرضوا لهم قال الوزير دندان إلى ضوء المكان :
والله إن هذه كرامة من الزاهد ولا شك أنه من الخواص .
فقال ضوء المكان :
والله ما أظن الكفار إلا عمياناً لأننا نراهم وهم لا يروننا .
فبينما هم في الثناء على الزاهد وتعداد كراماته وزهده وعبادته وإذا بالكفار قد هجموا عليهما واحتاطوا بهما وقبضوا عليهما وقالوا :
هل معكما أحد غيركما فنقبض عليه ?
فقال الوزير دندان :
أما ترون هذا الرجل الآخر الذي بين أيدينا ?
فقال لهم الكفار :
وحق المسيح والرهبان والجاثليق والمطران إننا لم نر أحداً غيركما .
فقال ضوء المكان :
والله إن الذي حل بنا عقوبة لنا من الله تعالى .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة التاسعة عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الكفار وضعوا القيود في أرجلهما ووكلوا بهما من يحرسهما في المبيت ، فصارا يتأسفان ويقولان لبعضهما :
إن الاعتراض على الصالحين يؤدي إلى أكثر من ذلك وجزاؤنا ما حل بنا من الضيق الذي نحن فيه .
هذا ما كان من أمر ضوء المكان والوزير دندان .
وأما ما كان من أمر الملك شركان فإنه بات تلك الليلة فلما أصبح الصباح قام وصلى صلاة الصبح ثم نهض هو ومن معه من العساكر وتأهبوا إلى قتال الكفار وقوى قلوبهم شركان ووعدهم بكل خير ثم ساروا إلى أن وصلوا إلى الكفار فلما رآهم الكفار من بعيد قالوا لهم :
يا مسلمين إنا أسرنا سلطانكم ووزيره الذي به انتظام أمركم وإن لم ترجعوا عن قتالنا قتلناكم عن آخركم وإذا سلمتم لنا أنفسكم فإننا نروح بكم إلى ملكنا فيصالحكم على أن تخرجوا من بلادنا وتذهبوا إلى بلادكم ولا تضرونا بشيء ولا نضركم بشيء فإن طاب خاطركم كان الحظ لكم وإن أبيتم فما يكون إلا قتلكم وقد عرفناكم وهذا آخر كلامنا .
فلما سمع شركان كلامهم وتحقق أسر أخيه والوزير دندان عظم عليه وبكى وضعفت قوته وأيقن بالهلاك وقال في نفسه :
يا ترى ما سبب أسرهما ? هل حصل منهما إساءة أدب في حق الزاهد واعتراض عليه ? وما شأنهما ?
ثم نهضوا إلى قتال الكفار فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وتبين في ذلك اليوم الشجاع من الجبان واختضب السيف والسنان وتهافتت عليهم الكفار تهافت الذباب على الشراب من كل مكان وما زال شركان ومن معه يقاتلون قتال من لا يخاف الموت ولا يعتريه في طلب الفرصة قوت حتى سال الوادي بالدماء وامتلأت الأرض بالقتلى .
فلما أقبل الليل تفرقت الجيوش وكل من الفريقين ذهب إلى مكانه وعاد المسلمون إلى تلك المغارة ولم يبق منهم إلا القليل ولم يكن منهم إلا على الله والله عليه كل تعويل وقد قتل منهم في هذا النهار خمسة وثلاثون فارساً من الأمراء والأعيان وإن من قتل بسيفهم من الكفار آلاف من الرجال والركبان فلما عاين شركان ذلك ضاق عليه الأمر وقال لأصحابه :
كيف العمل ?
فقال له أصحابه :
لا يكون إلا ما يريده الله تعالى .
فلما كان ثاني يوم قال شركان لبقية العسكر :
إن خرجتم للقتال ما بقي منكم أحد لأنه لم يبق عندنا إلا قليل من الماء والزاد والرأي الذي عندي فيه الرشاد أن تجردوا سيوفكم وتخرجوا وتقفوا على باب تلك المغارة لأجل أن تدفعوا عن أنفسكم كل من يدخل عليكم فلعل الزاهد أن يكون وصل إلى عسكر المسلمين ويأتينا بعشرة آلاف فارس فيعينون على قتال الكفرة ولعل الكفار لم ينظروه هو ومن معه .
فقال له أصحابه :
إن هذا الرأي هو الصواب وما في سداده ارتياب .
ثم إن العسكر خرجوا وملكوا باب المغارة ووقفوا في طرفيه وكل من أراد أن يدخل عليهم من الكفار يقتلوه وصاروا يدفعون الكفار عن الباب وصبروا على قتال الكفار إلى أن ذهب النهار وأقبل الليل بالاعتكار .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة العشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أنه عندما أقبل الليل لم يبق عند الملك شركان إلا خمسة وعشرون رجلاً لا غير فقال الكفار لبعضهم :
متى تنقضي هذه الأيام فإننا قد تعبنا من قتال المسلمين .
فقال بعضهم لبعض :
قوموا نهجم عليهم فإنه لم يبق منهم إلا خمسة وعشرون رجلاً فإن لم نقدر عليهم نضرم عليهم النار فإن انقادوا وسلموا أنفسهم إلينا أخذناهم أسرى وإن أبوا تركناهم حطباً للنار حتى يصيروا عبرة لأولي الأبصار فلا رحم المسيح أباهم ولا جعل مستقر النصارى مثواهم .
ثم إنهم حطوا الحطب على باب المغارة وأضرموا فيه النار فأيقن شركان ومن معه بالبوار فبينما هم كذلك وإذا بالبطريق الرئيس عليهم التفت إلى المشير بقتلهم وقال له :
لا يكون قتلهم إلا عند الملك أفريدون لأجل أن يشفي غليله فينبغي أن نبقيهم عندنا أسارى وفي غد نسافر إلى القسطنطينية ونسلمهم إلى الملك أفريدون فيفعل بهم ما يريد .
فقالوا :
هذا هو الرأي الصواب .
ثم أمروا بتكتيفهم وجعلوا عليهم حرساً فلما جن الظلام اشتغل الكفار باللهو والطعام ودعوا بالشراب فشربوا حتى انقلب كل منهم على قفاه وكان شركان وضوء المكان مقيدين وكذلك من معهم من الأبطال فعند ذلك نظر شركان إلى أخيه ، وقال له :
يا أخي كيف الخلاص ?
فقال ضوء المكان :
والله لا أدري وقد صرنا كالطير في الأقفاص .
فاغتاظ شركان وتنهد من شدة غيظه فانقطع الكتاف فلما خلص من الوثاق قام إلى رئيس الحراس وأخذ مفاتيح القيود من جيبه وفك ضوء المكان وفك الوزير دندان وفك بقية العسكر ثم التفت إلى أخيه ضوء المكان والوزير دندان وقال :
إني أريد أن أقتل من الحراس ثلاثة ونأخذ ثيابهم ونلبسها نحن الثلاثة حتى نصير في زي الروم ، ونسير بينهم حتى لا يعرفوا أحداً منا ، ثم نتوجه إلى عسكرنا .
فقال ضوء المكان :
إن هذا الرأي غير صواب لأننا إذا قتلناهم نخاف أن يسمع أحد شخيرهم فتنتبه إلينا الكفار فيقتلوننا والرأي السديد أن نسير إلى خارج الشعب .
فأجابوه إلى ذلك فلما صاروا بعيداً عن الشعب بقليل رأوا خيلاً مربوطة وأصحابها نائمون فقال شركان لأخيه :
ينبغي أن يأخذ كل واحد منا جواداً من هذه الخيول .
وكانوا خمسة وعشرين رجلاً فأخذوا خمسة وعشرين جواداً ، وقد ألقى الله النوم على الكفار لحكمة يعلمها الله .
ثم إن شركان جعل يختلس من الكفار السلاح من السيوف والرماح ، حتى اكتفوا ثم ركبوا الخيل التي أخذوها وساروا ، وكان في ظن الكفار أنه لا يقدر أحد على فكاك ضوء المكان وأخيه ومن معهما من العساكر وأنهم لا يقدرون على الهروب فلما خلصوا جميعاً من الأسر وصاروا في أمن من الكفار التفت إليهم شركان وقال لهم :
لا تخافوا حيث سترنا الله ولكن عندي رأي ولعله صواب .
فقالوا :
وما هو ?
قال :
أريد أن تطلعوا فريق الجبل وتكبروا كلكم تكبيرة واحدة وتقولوا :
لقد جاءتكم العساكر الإسلامية .
ونصيح كلنا صيحة واحدة ونقول :
الله أكبر .
فيفترق الجمع من ذلك ولا يجدون لهم في هذا الوقت حيلة فإنهم يسكنون ويظنون أن عسكر المسلمين أحاطوهم من كل جانب ، واختلطوا بهم فيقعون ضرباً بالسيف في بعضهم من دهشة السكر والنوم فنقطعهم بسيوفهم ويدور السيف فيهم إلى الصباح .
فقال ضوء المكان :
إن هذا الرأي غير صواب علينا أن نسير إلى عسكرنا ولا ننطق بكلمة لأننا إن كبرنا تنبهوا لنا ولحقونا فلم يسلم منا أحد .
فقال شركان :
والله لو انتبهوا لنا ما علينا بأس وأشتهي أن توافقونني على هذا الرأي وهو لا يكون الأخير .
فأجابوه إلى ذلك وطلعوا إلى فوق الجبل وصاحوا بالتكبير ، فكبرت معه الجبال والأشجار والأحجار من خشية الله تعالى فسمع الكفار ذلك التكبير فصاح الكفار صيحة مزعجة .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الحادية والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أنه عندما صاح الكفار على بعضهم ولبسوا السلاح وقالوا :
قد هجمت علينا الأعداء وحق المسيح .
ثم قتلوا من بعضهم ما لا يعلم عدده إلا الله تعالى فلما كان الصباح فتشوا على الأسارى فلم يجدوا لهم أثراً .
فقال رؤساؤهم :
إن الذي فعل بكم هذه الفعال هم الأسارى الذين كانوا عندنا فدونكم والسعي خلفهم حتى تلحقوهم فتسقوهم كأس الوبال ولا يحصل لكم خوف ولا انذهال .
ثم إنهم ركبوا خيولهم وسعوا خلفهم فما كان إلا لحظة حتى لحقوهم وأحاطوا بهم فلما رأى ضوء المكان ذلك ازداد به الفزع وقال لأخيه :
إن الذي خفت من حصوله قد حصل وما بقي لنا حيلة إلا الجهاد .
فلزم شركان السكوت عن المقال ثم انحدر ضوء المكان من أعلى الجبل وكبرت معه الرجال وعولوا على الجهاد وبيع أنفسهم في طاعة رب العباد فبينما هم كذلك وإذا باصوات يصيحون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فالتفتوا إلى جهة الصوت فرأوا جيوش المسلمين وعساكر الموحدين مقبلين ، فلما رأوهم قويت قلوبهم ، وحمل شركان على الكافرين وهلل وكبر هو ومن معه من الموحدين فارتجت الأرض كالزلزال وتفرقت عساكر الكفار في عرض الجبال فتبعتهم المسلمين بالضرب والطعان وأطاحوا منهم الرؤوس عن الأبدان ولم يزل ضوء المكان هو ومن معه من المسلمين يضربون في أعناق الكافرين إلى أن ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار .
ثم انحاز المسلمون إلى بعضهم وباتوا مستبشرين طول ليلهم ، فلما أصبح الصباح وأشرق بنوره ولاح رأوا بهرام مقدم الديلم ورستم مقدم الأتراك ، ومعهما عشرين ألف فارس مقبلين عليهم كالليوث العوابس ، فلما رأوا ضوء المكان ترجل الفرسان وسلموا عليه وقبلوا الأرض بين يديه فقال لهم ضوء المكان :
أبشروا بنصر المسلمين وهلاك الكافرين .
ثم هنوا بعضهم بالسلامة وعظيم الأجر في القيامة وكان السبب في مجيئهم إلى هذا المكان أن الأمير بهرام والأمير رستم والحاجب الكبير لما ساروا بجيوش المسلمين والرايات على رؤوسهم منشورة حتى وصلوا إلى القسطنطينية رأوا الكفار قد طلعوا على الأسوار وملكوا الأبراج والقلاع واستعدوا في كل حصن مناع حين علموا بقدوم العساكر الإسلامية والأعلام المحمدية وقد سمعوا قعقعة السلاح وضجة الصياح ونظروا فرأوا المسلمين وسمعوا حوافر خيولهم من تحت الغبار فإذا هم كالجراد المنتشر والسحاب المنهمر وسمعوا أصوات المسلمين بتلاوة القرآن وتسبيح الرحمن وكان السبب في أعلام الكفار بذلك ما دبرته العجوز ذات الدواهي من زورها وعهرها وبهتانها ومكرها حتى قربت العساكر كالبحر الزاخر من كثرة الرجال والفرسان والنساء والصبيان ، فقال أمير الترك لأمير الديلم :
يا أمير إننا بقينا على خطر منا للأعداء الذين فوق الأسوار فانظر إلى تلك الأبراج وإلى هذا العالم الذي كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج إن هؤلاء الكفار قدرنا مائة مرة ولا نأمن من جاسوس شر فيخبرهم أننا على خطر من الأعداء الذين لا يحصى عددهم ولا ينقطع مددهم خصوصاً مع غيبة الملك ضوء المكان وأخيه والوزير الأجل دندان فعند ذلك يطمعون فينا لغيبتهم عنا فيمحقوننا بالسيف عن آخرنا ولا ينجو منا ناج ومن الرأي أن نأخذ عشرة آلاف فارس من المواصلة والأتراك ونذهب بهم إلى الدير مطروحنا ومرج ملوخنا في طلب إخواننا وأصحابنا فإن أطعتموني فلا لوم علي وإذا توجهتم ينبغي أن ترجعوا إلينا مسرعين فإن من الحزم سوء الظن .
فعندما قبل الأمير المذكور كلامه وانتخب عشرين ألف فارس وساروا يقطعون الطرقات طالبين المرج المذكور والدير المشهور .
هذا ما كان سبب مجيئهم .
وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي فإنها لما أوقعت السلطان ضوء المكان وأخاه شركان والوزير دندان في أيدي الكفار أخذت تلك العاهرة جواداً وركبته وقالت للكفار :
إني أريد أن ألحق عسكر المسلمين وأتحيل على هلاكهم لأنهم في القسطنطينية فأعلمهم أن أصحابهم هلكوا فإذا سمعوا ذلك مني تشتت شملهم وانصرم حبلهم وتفرق جمعهم ، ثم أدخل أنا إلى الملك أفريدون ملك القسطنطينية وولدي الملك حردوب ملك الروم وأخبرهما بهذا الخبر فيخرجان بعساكر إلى المسلمين ويهلكونهم ولا يتركون أحداً منهم .
ثم سارت لقطع الأرض على ذلك الجواد طول الليل فلما أصبح الصباح لاح عسكر بهرام ورستم فدخلت بعض الغابات وأخفت جوادها هناك ، ثم خرجت وتمشت قليلاً وهي تقول في نفسها :
لعل عساكر المسلمين قد رجعوا منهزمين من حرب القسطنطينية .
فلما قربت منهم نظرت إليهم وتحققت أعلامهم فرأتها غير منكسة فعلمت أنهم أتوا غير منهزمين ولا خائفين على ملكهم وأصحابهم .
فلما عاينت ذلك أسرعت نحوهم بالجري الشديد مثل الشيطان المريد إلى أن وصلت إليهم وقالت لهم :
العجل يا جند الرحمن إلى جهاد حزب الشيطان .
فلما رآها بهرام أقبل عليها وترجل وقبل الأرض بين يديها وقال لها :
يا ولي الله ما وراءك ?
فقالت :
لا تسأل عن سوء الحال وشديد الأهوال فإن أصحابنا لما أخذوا المال من دير مطروحنا أرادوا أن يتوجهوا إلى القسطنطينية فعند ذلك خرج عليهم عسكر جرار ذو بأس من الكفار .
ثم إن الملعونة أعادت عليهم أرجافاً وجلاً وقالت :
إن أكثرهم هلك ولم يبق إلا خمسة وعشرون رجلاً .
فقال بهرام :
أيها الزاهد متى فارقتهم ?
فقال :
في ليلتي هذه .
فقال بهرام :
سبحان الذي طوى لك الأرض البعيدة وأنت ماشي على قدميك متكئاً على جريدة لكنك من الأولياء الطيارة المهمين وحي الإشارة .
ثم ركب على ظهر جواده وهو مدهوش وحيران بما سمعه من ذات الإفك والبهتان ، وقال :
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لقد ضاع تعبنا وضاقت صدرونا وأسر سلطاننا ومن معه .
ثم جعلوا يقطعون الأرض طولاً وعرضاً ليلاً ونهاراً ، فلما كان وقت السحر أقبلوا على رأس الشعب فرأوا ضوء المكان وأخاه شركان يناديان بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير ، فحمل هو وأصحابه أحاطوا بالكفار إحاطة السيل بالقفار وصاحوا عليهم صياحاً ضجت منه الأبطال وتصدعت منه الجبال فلما أصبح الصباح وأشرق بنوره ولاح لهم من ضوء المكان طيبه ونشره وتعارفوا ببعضهم كما تقدم ذكره فقبلوا الأرض بين يدي ضوء المكان وأخيه شركان وأخبروهم بما جرى لهم في المغارة فتعجبوا من ذلك .
ثم قالوا لبعضهم :
أسرعوا بنا إلى القسطنطينية لأننا تركنا أصحابنا هناك وقلوبنا عندهم .
فعند ذلك أسرعوا في المسير وتوكلوا على اللطيف الخبير وكان ضوء المكان يقوي المسلمين على الثبات وينشد هذه الأبيات :
لك الحمد مستوجب الحمد والشكر ........ فما زلت لي بالعون يا رب في أمري
ربيت غريباً في البلاد وكنـت لي ........ كفيلاً وقد قدرت يا ربنـا نـصري
وأعطيتني مالاً وملـكـاً ونعـمة ........ وقلدتني سيف الشجاعة والـنصر
وخولتني ظل المليك معـمراً وقد ........ وجدت لي من فيض وجودك بالغمر
بفضلك قد صلنا على الروم صولة ........ وقد رجعوا بالضرب فـي خور
وأظهرت أني قد هـزمت هزيمة ........ وعدت عليهم عودة الضيغم الغـمر
تركتهم في القاع صرعى كأنـهم ........ نشاوى بكأس الموت لا قهوة الحمر
وصارت بأيدينا المراكـب كلـها ........ وصار لنا السلطان في البر والبحر
وجاء إلينا الزاهـد العـابد الذي ........ كرامته شاعت لذي البدو والحضر
أتينا لأخذ الثأر من كل كافر وقد ........ شاع عند الناس ما كان من أمري
وقد قتلوا منا رجالاً فأصـبحـوا ........ لهم غرف في الخلد تعلو على نهر
فلما فرغ ضوء المكان من شعره هنأه أخوه شركان بالسلامة وشكره على أفعاله ، ثم إنهم توجهوا مجدين المسير .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثانية والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن شركان هنأ أخاه ضوء المكان بالسلامة وشكره على أفعاله ثم إنهم توجهوا مجدين المسير طالبين عساكرهم .
هذا ما كان من أمرهم .
وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي فإنها لما لاقت عسكر بهرام ورستم عادت إلى الغابة وأخذت جوادها وركبته وأسرعت في سيرها حتى أشرفت على عسكر المسلمين والمحاصرين للقسطنطينية ، ثم إنها نزلت وأخذت جوادها وأتت به إلى السرداق الذي فيه الحاجب فلما رآها نهض لها قائماً وأشار إليها بالإيماء وقال :
مرحباً بالعابد الزاهد .
ثم سألها عما جرى فأخبرته بخبرها المرجف وبهتانها المتلف وقالت له :
إني أخاف على الأمير رستم والأمير بهرام لأني قد لاقيتهما مع عسكرهما في الطريق وأرسلتهما إلى الملك ومن معه وكانا في عشرين ألف فارس ، والكفار أكثر منهم وإني أردت في هذه الساعة أن ترسل جملة من عسكرك حتى يلحقوهم بسرعة ، لئلا يهلكوا عن آخرهم .
وقالت لهم :
العجل العجل .
فلما سمع الحاجب والمسلمون منها ذلك الكلام انحلت عزائمهم وبكوا وقالت لهم ذات الدواهي :
استعينوا بالله واصبروا على هذه الرزية فلكم أسوة بمن سلف من الأمة المحمدية فالجنة ذات العصور أعدها لمن يموت شهيداً ، ولا بد من الموت لكل أحد ولكنه في الجهاد أحمد .
فلما سمع الحاجب كلام اللعينة ذات الدواهي دعا بأخ الأمير بهرام وكان فارساً يقال له تركاش وانتخب له عشرة آلاف فارس أبطال عوابس ، وأمره بالسير فسار في ذلك اليوم وطول الليل حتى قرب من المسلمين فلما أصبح الصباح رأى شركان ذلك الغبار فقال :
أن يكونوا المسلمين فهذا هو النصر المبين وإما أن يكونوا من عسكر الكفار فلا اعتراض على الأقدار .
ثم إنه أتى إلى أخيه ضوء المكان ، وقال له :
لا تخف أبداً فإني أفديك بروحي من الردا فإن هؤلاء من عسكر الإسلام فهذا مزيد الأنعام وإن كان هؤلاء أعداءنا فلا بد من قتالهم لكن أشتهي أن أقابل العابد قبل موتي لأسأله أن يدعو إلى أن لا أموت إلا شهيداً فبينما هم كذلك وإذا بالرايات قد لاحت مكتوباً عليها :
لا إله إلا الله محمد رسول الله .
فصاح شركان :
كيف حال المسلمين ?
قالوا :
بعافية وسلامة وما أتينا إلا خوفاً عليكم .
ثم ترجل رئيس العسكر عن جواده وقبل الأرض بين يديه وقال :
يا مولانا كيف السلطان والوزير دندان ورستم وأخي بهرام ? أما هم الجميع سالمون ?
فقال :
بخير .
ثم قال له :
ومن الذي أخبركم بخبرنا ?
قال :
الزاهد قد ذكر أنه أتى أخي بهرام ورستم وأرسلهما إليكم وقال لنا :
إن الكفار قد أحاطوا بهم وهم كثيرون وما أرى الأمر إلا بخلاف ذلك وأنتم منصورون .
فقال لهم :
وكيف وصول الزاهد إليكم ?
فقالوا له :
كان سائراً على قدميه وقطع في يوم وليلة مسيرة عشرة أيام للفارس المجد .
فقال شركان :
لا شك أنه ولي الله ، وأين هو ?
قالوا له :
تركناه عند عسكرنا أهل الإيمان يحرضهم على قتال أهل الكفر والطغيان .
ففرح شركان بذلك وحمد الله سلامتهم وسلامة الزاهد ، وترحموا على من قتل منهم وقالوا :
كان ذلك في الكتاب المسطور .
ثم ساروا مجدين في سيرهم فبينما هم كذلك وإذا بغبار قد سار حتى سد الأقطار وأظلم منه النهار فنظر إليه شركان ، وقال :
إني أخاف أن يكون الكفار قد كسروا عسكر الإسلام لأن هذا الغبار سد المشرقين وملأ الخافقين .
ثم لاح من تحت ذلك عمود من الظلام أشد سواداً من حالك الأيام وما زالت تقرب منهم تلك الدعامة وهي أشد من هول يوم القيامة فتسارعت إليها الخيل والرجال لينظروا ما سبب سوء هذا الحال فرأوه الزاهد المشار إليه فازدحموا على تقبيل يديه وهو ينادي :
يا أمة خير الأنام ومصباح الظلام إن الكفار غدروا بالمسلمين فأدركوا عساكر الموحدين وأنقذوهم من أيدي الكفرة اللئام فإنهم هجموا عليهم في الخيام ونزل بهم العذاب المهين وكانوا في مكانهم آمنين .
فلما سمع شركان ذلك الكلام طار قلبه من شدة الخفقان وترجل عن جواده وهو حيران .
ثم قبل يد الزاهد ورجليه وكذلك أخوه ضوء المكان وبقية العسكر من الرجال والركبان إلا الوزير دندان فإنه لم يترجل عن جواده وقال :
والله إن قلبي نافر من هذا الزاهد لأني ما عرفت للمتنطعين في الدين غير المفاسد فاتركوه وأدركوا أصحابكم المسلمين فإن هذا من المطرودين عن باب رحمة رب العالمين ، فكم غزوت مع الملك عمر النعمان ودست أراضي هذا المكان .
فقال له شركان :
دع هذا الظن الفاسد أما نظرت إلى هذا العابد وهو يحرض المؤمنين على القتال ولا يبالي بالسيوف والنبال فلا تغتابه لأن الغيبة مذمومة ولحوم الصالحين مسمومة وانظر إلى تحريضه لنا على قتال أعدائنا ، ولولا أن الله تعالى يحبه ما طوى له العبد بعد أن أوقعه سابقاً في العذاب الشديد .
ثم إن شركان أمر أن يقدموا بغلة نوبية إلى الزاهد ليركبها وقال له :
اركب أيها الزاهد الناسك العابد .
فلم يقبل ذلك وامتنع عن الركوب وأظهر الزهد لينال المطلوب ، وما دروا أن هذا الزاهد الطاهر هو الذي قال في مثله الشاعر :
صلى وصام لأمر كان يطـلـبـه ........ لما قضي الأمر لا صلى ولا صاما
ثم إن ذلك الزاهد ما زال ماشياً بين الخيل والرجال كأنه الثعلب المحتال رافعاً صوته بتلاوة القرآن وتسبيح الرحمن وما زالوا سائرين حتى أشرفوا على عسكر الإسلام فوجدهم شركان في حالة الانكسار والحاجب قد أشرف على الهزيمة والفرار والسيف يعمل بين الأبرار والفجار .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثالثة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن السبب في خذل المسلمين أن اللعينة ذات الدواهي عدوة الدين لما رأت بهرام ورستم قد سارا بعسكرهما نحو شركاء وأخيه ضوء المكان سارت هي نحو عسكر المسلمين وأرسلت الأمير تركاش كما تقدم ذكره وقصدها بذلك أن تفرق بين عسكر المسلمين لأجل أن يضعفوا ، ثم تركتهم وقصدت القسطنطينية ونادت بطارقة الروم بأعلى صوتها وقالت :
أدلوا حبلاً لأربط فيه هذا الكتاب وأوصلوه إلى ملككم أفريدون ليقرأه هو وولدي ملك الروم ويعملان بما فيه من أوامره ونواهيه .
فأدلوا لها حبلاً فربطت فيه الكتاب وكان مضمونه :
من عند الداهية والطامة الكبرى ذات الدواهي إلى الملك أفريدون ، أما بعد فإني دبرت لكم حيلة على هلاك المسلمين فكونوا مطمئنين وقد أسرتهم وأسرت سلطانهم ووزيرهم ثم توجهت إلى عسكرهم وأخبرتهم بذلك فانكسرت شوكتهم وضعفت قوتهم وقد خدعت العسكر المحاصرين للقسطنطينية حتى أرسلت منهم اثني عشر ألف فارس مع الأمير تركاش خلاف المأسورين وما بقي منهم إلا القليل ، فالمراد أنكم تخرجون إليهم بجميع عسكركم في بقية هذا النهار وتهجمون عليهم في خيامهم ولكنكم لا تخرجون إلا سواء واقتلوهم عن آخرهم ، فإن المسيح قد نظر إليكم والعذراء تعطف عليكم ، وأرجو من المسيح أن لا ينسى فعلي الذي قد فعلته .
فلما وصل كتابها إلى الملك أفريدون فرح فرحاً شديداً وأرسل في الحال إلى ملك الروم ابن ذات الدواهي وأحضره وقرأ الكتاب عليه ففرح وقال :
انظر إلى مكر أمي فإنه يغني عن السيوف وطلعتها تنوب عن هول اليوم المخوف .
فقال الملك أفريدون :
لا أعدمك المسيح طلعة أمك ولا أخلاك من مكرك ولؤمك .
ثم أمر البطارقة أن ينادوا بالرحيل إلى خارج المدينة وشاع الخبر في القسطنطينية وخرجت عساكر النصرانية والعصبة الصليبية وجردوا السيوف الحداد وأعلنوا بكلمة الكفر والإلحاد وكفروا برب العباد ، فلما نظر الحاجب إلى ذلك قال :
إن سلطاننا غائب فربما هجموا علينا وأكثر عساكرنا قد توجه إلى الملك ضوء المكان .
واغتاظ الحاجب ونادى :
يا عسكر المسلمين وحماة الدين المتين إن هربتم هلكتم وإن صبرتم نصرتم فاعلموا أن الشجاعة صبر ساعة وما ضاق أمر إلا أوجد الله اتساعه ، بارك الله فيكم ونظر إليكم بعين الرحمة .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الرابعة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الحاجب قال لجيش المسلمين :
بارك الله عليكم ونظر إليكم بعين الرحمة .
فعند ذلك كبر المسلمون وصاح الموحدون ودارت رحى الحرب بالطعن والضرب وعملت الصوارم والرماح وملأ الدم الأودية والبطاح وقسست القسوس والرهبان وشدوا الزنانير ورفعوا الصلبان وأعلن المسلمون بالتكبير للملك الديان وصاحوا بتلاوة القرآن واصطدم حزب الرحمن بحزب الشيطان وطارت الرؤوس عن الأبدان وطافت الملائكة الأخيار على أمة النبي المختار ولم يزل السيف يعمل إلى أن ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار وقد أحاط الكفار بالمسلمين وحسبوا أن ينجوا من العذاب المبين وطمع المشركون في أهل الإيمان إلى أن طلع الفجر وبان فركب الحاجب هو وعسكره ورجا الله أن ينصره واختلطت الأمم بالأمم وقامت الحرب على ساق وقدم وطارت القمم وثبت الشجاع وتقدم وولى الجبان وانهزم وقضى قاضي الموت وحكم حتى تطاوحت الأبطال عن السروج وامتلأت بالأمواج المروج وتأخرت المسلمون عن أماكنها وملكت بعض خيامها ومساكنها وعزم المسلمون على الانكسار والهزيمة والفرار .
فبينما هم كذلك وإذا بقدوم شركان بعساكر المسلمين ورايات الموحدين ، فلما أقبل عليهم شركان حمل على الكفار وتبعه ضوء المكان وحمل بعدهما الوزير دندان وكذلك أمير ديلم بهرام ورستم وأخوه تركاش ، فإنهم لما رأوا ذلك طارت عقولهم وغاب معقولهم وثار الغبار حتى ملأ الأقطار واجتمعت واجتمع المسلمون الأخيار بأصحابهم الأبرار واجتمع شركان بالحاجب فشكره على صبره وهنأه بتأييده ونصره وفرحت المسلمون وقويت قلوبهم وحملوا على أعدائهم وأخلصوا لله في جهادهم ، فلما نظر الكفار إلى الرايات المحمدية وعليها كلمة الإخلاص الإسلامية وصاحوا بالويل والثبور واستغاثوا ببطارقة الدبور ونادوا يوحنا ومريم والصليب وانقبضت أيديهم عن القتال وقد أقبل الملك أفريدون على ملك الروم وصار أحدهما إلى الميمنة والآخر في الميسرة وعندهم فارس مشهور يسمى لاويا فوقف وسطاً واصطفوا للنزال وإن كانوا في فزع وزلزال ثم صفت المسلمون عساكرهم .
فعند ذلك أقبل شركان على أخيه ضوء المكان وقال له :
يا ملك الزمان لا شك أنهم يريدون البراز وهذا غاية مرادنا ولكن أحب أن أقدم من العسكر من له عزم ثابت فإن التدبير نصف المعيشة .
فقال السلطان :
ماذا تريد يا صاحب الرأي السديد ?
فقال شركان :
أريد أن أكون في قلب عسكر الكفار وأن يكون الوزير دندان في الميسرة وأنت في الميمنة والأمير بهرام في الجناح الأيمن والأمير رستم في الجناح الأيسر وأنت أيها الملك العظيم تكون تحت الأعلام والرايات لأنك عمادنا وعليك بعد الله اعتمادنا ونحن كلنا نفديك من كل أمر يؤذيك .
فشكره ضوء المكان على ذلك وارتفع الصياح وجردت الصفاح .
فبينما هم كذلك وإذا بفارس قد ظهر من عسكر الروم فلما قرب رأوه راكباً على بغلة قطوف تفر بصاحبها من وقع السيوف وبردعتها من أبيض الحرير وعليها سجادة من شغل كشمير وعلى ظهرها شيخ مليح الشيبة ظاهر الهيبة عليه مدرعة من الصوف الأبيض ولم يزل يسرع بها وينهض حتى قرب من عسكر المسلمين وقال :
إني رسول إليكم أجمعين وما على الرسول إلا البلاغ فأعطوني الأمان والإقالة حتى أبلغكم الرسالة .
فقال له شركان :
لك الأمان فلا تخش حرب سيف ولا طعن سنان .
فعند ذلك ترجل الشيخ وقلع الصليب من عنقه بين يدي السلطان وخضع له خضوع راجي الإحسان فقال له المسلمون :
ما معك من الأخبار ?
فقال :
إني رسول من عند الملك أفريدون فإني نصحته ليمتنع عن تلف هذه الصور والهياكل الرحمانية وبينت له أن الصواب حقن الدماء والاقتصار على فارسين في الهيجاء فأجابني إلى ذلك وهو يقول لكم :
إني فديت عسكري بروحي فليفعل ملك المسلمين مثلي ويفدي عسكره بروحه فإن قتلني فلا يبقى لعسكر الكفار ثبات وإن قتله فلا يبقى لعسكر المسلمين ثبات .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الخامسة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن رسول الملك أفريدون لما قال للمسلمين :
إن قتل ملك المسلمين فلا يبقى لعسكره ثبات .
فلما سمع شركان هذا الكلام قال :
يا راهب إنا أجبناه إلى ذلك فإن هذا هو الإنصاف فلا يكون منه خلاف وها أنا أبرز إليه وأحمل عليه فإني فارس المسلمين غير المفر فارجع إليه أيها الراهب وقل له أن البراز في غد لأننا أتينا من سفرنا على تعب في هذا اليوم وبعد الراحة لا عتب ولا لوم .
فرجع الراهب وهو مسرور حتى وصل إلى الملك أفريدون وملك الروم وأخبرهما ففرح الملك أفريدون وملك الروم غاية الفرح وزال الهم والترح ، وقال في نفسه :
لا شك أن شركان هذا هو أضربهم بالسيف وأطعنهم بالسنان فإذا قتلته انكسرت همتهم وضعفت قوتهم .
وقد كانت ذات الدواهي كاتبت الملك أفريدون بذلك ، وقالت له :
إن شركان هو فارس الشجعان وشجاع الفرسان .
وحذرت أفريدون من شركان وكان أفريدون فارساً عظيماً لأنه كان يقاتل بأنواع القتال ويرمي بالحجارة والنبال ويضرب بالعمود الحديد ، ولا يخشى من البأس الشديد .
فلما سمع قول الراهب من أن شركان أجاب إلى البراز كاد أن يطير من شدة الفرح لأنه واثق بنفسه ويعلم أنه لا طاقة لأحد به ، ثم بات الكفار تلك الليلة في فرح وسرور وشرب خمور فلما كان الصباح أقبلت الفوارس بسمر الرماح وبيض الصفاح وإذا هم بفارس قد برز في الميدان وهو راكب على جواد من الخيل الجياد معد للحرب والجلاد وله قوائم شداد وعلى ذلك الفارس درع من الحديد معد للبأس الشديد وفي صدره مرآة من الجوهر وفي يده صارم أبتر وقنطارته خلنجية من غريب عمل الإفرنج أن الفارس كشف عن وجهه وقال :
من عرفني فقد اكتفاني ومن لم يعرفني فسوف يراني ، أنا أفريدون المغمور ببركة شواهي ذات الدواهي .
فما تم كلامه حتى خرج في وجهه فارس المسلمين شركان وهو راكب على جواد أشقر يساوي ألفاً من الذهب الأحمر وعليه عدة مزركشة بالدرر والجوهر وهو متقلد بسيف هندي مجوهر يقد الرقاب ويهون الأمور الصعاب .
ثم ساق جواده بين الصفين والفرسان تنظره بالعين ثم نادى أفريدون ، وقال له :
ويلك يا ملعون أتظنني كمن لاقيت من الفرسان ولا يثبت معك في حومة الميدان .
ثم حمل كل منهما على صاحبه فصار الاثنان كأنهما جبلان يصطدمان أو بحران يلتطمان ثم تقاربا وتباعدا والتصقا وافترقا ولم يزالا في كر وفر وهزل وجد وضرب وطعن والجيشان ينظران إليهما وبعضهم يقول :
إن شركان غالب .
والبعض يقول :
إن أفريدون غالب .
ولم يزل الفارسان على هذا الحال حتى بطل القيل والقال وعلا الغبار وولى النهار ومالت الشمس إلى الاصفرار وصاح الملك افريدون على شركان وقال :
وحق المسيح والاعتقاد الصحيح ما أنت إلا فارس كرار وبطل مغوار غير أنك غدار وطبعك ما هو إلا طبع الأخيار لأني أرى فعالك غير حميدة وقتالك قتال الصناديد ، وقومك ينسبونك إلى العبيد ، وها هم أخرجوا لك غير جوادك وتعود إلى القتال وإني حق ديني قد أعياني قتالك وأتعبني ضربك وضمانك فإن كنت تريد قتالي في هذه الليلة فلا تغير شيئاً من عدتك ولا جودتك ، حتى يظهر الفرسان كرمك وقتالك .
فلما سمع شركان هذا الكلام اغتاظ من قول أصحابه في حقه ، حيث ينسبونه إلى العبيد ، فالتفت إليهم شركان وأراد أن يسير إليهم ويأمرهم أن لا يغيروا له جواداً ولا عدة وإذا بأفريدون هز حربته وأرسلها إلى شركان فالتفت وراءه فلم يجد أحداً فعلم أنها حيلة من الملعون فرد وجهه بسرعة وإذا بالحربة قد أدركته فمال عنها حتى ساوى برأسه قربوس سرجه فجرت الحربة على صدره وكان شركان عالي الصدر فكشطت الحربة جلدة صدره ، فصاح صيحة واحدة وغاب عن الدنيا ففرح الملعون أفريدون بذلك وعرف أنه قد قتل فصاح على الكفار ونادى بالفرح فهاجت أهل الطغيان وبكت أهل الإيمان فلما رأى ضوء المكان أخاه مائلاً على الجواد حتى كاد أن يقع أرسل نحوه الفرسان فتسابقت إليه الأبطال وأتوا به إليه وحملت الكفار على المسلمين والتقى الجيشان واختلط الصفان وعمل اليماني وكان أسبق الناس إلى شركان الوزير دندان .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السادسة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما رأى اللعين قد ضرب أخاه شركان بالحربة ظن أنه مات فأرسل إليه الفرسان وكان أسبق الناس إليه الوزير دندان وأمير الترك بهرام وأمير الديلم فلحقوه وقد مال عن جواده فأسندوه ورجعوا به إلى أخيه ضوء المكان .
ثم أوصوا الغلمان وعادوا إلى الحرب والطعان واشتد النزال وتقصفت النصال وبطل القيل والقال فلا يرى إلا دم سائل وعنق مائل ولم يزل السيف يعمل في الأعناق واشتد الشقاق إلى أن أقبل الليل وكلت الطائفتان عن القتال فنادوا بالانفصال ورجعت كل طائفة إلى خيامها وتوجه جميع الكفار إلى ملكهم أفريدون وقبلوا الأرض بين يديه وهنأه القسوس والرهبان بظفره بشركان .
ثم إن الملك أفريدون دخل القسطنطينية وجلس على كرسي مملكته وأقبل عليه ملك الروم وقال له :
قوى المسيح ساعدك واستجاب من الأم الصالحة ذات الدواهي ما تدعو به لك واعلم أن المسلمين ما بقي لهم إقامة بعد شركان .
فقال أفريدون :
في غد يكون الانفصال إذا خرجت إلى النزال وطلبت ضوء المكان وقتلته فإن عسكرهم يولون الأدبار ويركنون إلى الفرار .
هذا ما كان من أمر الكفار .
وأما ما كان من أمر عساكر الإسلام فإن ضوء المكان لما رجع إلى الخيام لم يكن له شغل إلا بأخيه فلما دخل عليه وجده في أسوأ الأحوال وأشد الأهوال فدعا بالوزير دندان ورستم وبهرام للمشورة فلما دخلوا عليه اقتضى رأيهم إحضار الحكماء لعلاج شركان ثم بكوا وقالوا :
لم يسمح بمثله الزمان .
وسهروا عنده تلك الليلة وفي آخر الليل أقبل عليهم الزاهد وهو يبكي فلما رآه ضوء المكان قام إليه فملس بيده على أخيه وتلى شيئاً من القرآن ، وعوذه بآيات الرحمن وما زال سهراناً عنده إلى الصباح فعند ذلك استفاق شركان وفتح عينيه وأدار لسانه في فمه وتكلم ففرح السلطان ضوء المكان وقال :
قد حصلت له بركة الزاهد .
فقال شركان :
الحمد لله على العافية فإنني بخير في هذه الساعة وقد عمل علي هذا الملعون حيلة ولولا أني زغت أسرع من البرق لكانت الحربة نفذت في صدري فالحمد لله الذي نجاني وكيف حال المسلمين ؟
فقال ضوء المكان :
هم في بكاء من أجلك .
فقال :
إني بخير وعافية وأين الزاهد ؟
وهو عند رأسه قاعد ، فقال له :
عند رأسك .
فقام إليه وقبل يديه ، فقال الزاهد :
يا ولدي عليك بجميل الصبر يعظم الله لك الأجر فإن الأجر على قدر المشقة .
فقال له شركان :
ادع لي .
فدعا له .
فلما أصبح الصباح وبان الفجر ولاح برزت المسلمون إلى ميدان الحرب وتهيأ الكفار للطعن والضرب ، وتقدمت عساكر المسلمين فطلبوا الحرب والكفاح وجردوا السلاح وأراد الملك ضوء المكان وأفريدون أن يحملا على بعضهما وإذا بضوء المكان :
نحن فداك .
فقال لهم :
وحق البيت الحرام وزمزم والمقام لا اقعد عن الخروج إلى هؤلاء العلوج .
فلما صار في الميدان لعب بالسيف والسنان حتى أذهل الفرسان وتعجب الفريقان وحمل في الميمنة فقتل منها بطريقين وفي الميسرة فقتل منها بطريقين ونادى في وسط الميدان :
أين أفريدون حتى أذيقه عذاب الهوان .
فأراد الملعون أن يولي وهو مغبون فأقسم عليه ضوء المكان أن لا يبرح من الميدان وقال له :
يا ملك بالأمس كان قتال أخي واليوم قتالي وأنا بشجاعتك لا أبالي .
ثم خرج وبيده صارم وتحته حصان كأنه عنتر في حومة الميدان وذلك الحصان أدهم مغاير كما قال فيه الشاعر :
قد سابق الطرف بطرف سابـق ........ كأنـه يريد إدراك الـقـدر
دهمته تبدي سـواداً حـالـكـا ........ كأنها ليل إذا اللـيل عـكـر
صهيله يزعج مـن يسـمـعـه ........ كأنه الرعد إذا الرعد زجـر
لو تسابق الريح جرى من قبلها ........ والبرق لا يسبقه إذا ظـهـر
ثم حمل كل منهما على صاحبه ، واحترس من مضاربه وأظهر ما في بطنه من عجائبه وأخذا في الكر والفر حتى ضاقت الصدر وقل الصبر للمقدور وصاح ضوء المكان وهجم على ملك القسطنطينية أفريدون وضربه ضربة أطاح بها رأسه وقطع أنفاسه ، فلما نظرت الكفار إلى ذلك حملوا جميعاً عليه وتوجهوا بكليتهم إليه فقابلهم في حومة الميدان واستمر الضرب والطعان حتى سال الدم بالجريان وضج المسلمون بالتكبير والتهليل والصلاة على البشير النذير وقاتلوا قتالاً شديداً وأنزل الله النصر على المؤمنين والخزي على الكافرين ، وصاح الوزير دندان :
خذوا بثأر الملك عمر النعمان وثار ولده شركان .
وكشف برأسه وصاح :
يا للأتراك .
وكان بجانبه أكثر من عشرين ألف فارس فحملوا معه حملة واحدة فلم يجد الكفار لأنفسهم غير الفرار وتولي الأدبار وعمل فيهم الصارم البتار فقتل منهم نحو خمسين ألف فارس وأسروا ما يزيد على ذلك ، وقتل عند دخول الباب خلق كثير من شدة الزحام ، ثم أغلقوا الباب وطلعوا فوق الأسوار وخافوا خوف العذاب وعادت طوائف المسلمين مؤيدين منصورين وأتوا خيامهم ودخل ضوء المكان على أخيه فوجده في أسر الأحوال فسجد وشكر الكريم المتعال ثم أقبل عليه وهنأه بالسلامة .
فقال شركان :
إننا كلنا في بركة هذا الزاهد الأواب ما انتصرنا إلا بدعائه المستجاب ، فإنه لم يزل قاعداً يدعو للمسلمين بالنصر .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السابعة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما دخل علي أخيه شركان وجده جالساً والعابد عنده ففرح وأقبل عليه وهنأه بالسلامة ثم إن شركان قال :
إننا كلنا في بركة هذا الزاهد وما انتصرتم إلا بدعائه لكم فإنه ما برح اليوم يدعو للمسلمين وكنت قد وجدت في نفسي قوة حين سمعت تكبيركم فعلمت أنكم منصورون على أعدائكم فاحك لي يا أخي ما وقع لك .
فحكى له جميع ما وقع له مع الملك الملعون أفريدون وأخبره أنه قتله وراح إلى لعنة الله فأثنى عليه وشكر مسعاه فلما سمعت ذات الدواهي وهي في صفة الزاهد بقتل ولدها أفريدون انقلب لونها بالاصفرار وتغرغرت عيناها بالدموع الغزار ولكنها أخفت ذلك وأظهرت للمسلمين أنها فرحت وأنها تبكي من شدة الفرح ثم إنها قالت في نفسها :
وحق المسيح ما بقي في حياتي فائدة إن لم أحرق قلبه على أخيه شركان ، كما أحرق قلبي على عماد الملة النصرانية والعبادة الصليبية الملك أفريدون .
ولكنها كفت ما بها .
ثم إن الوزير دندان والملك ضوء المكان والحاجب استمروا جالسين عند الملك شركان حتى عملوا له اللزق وأعطوه الدواء فتوجهت إليه العافية وفرحوا بذلك فرحاً شديداً وأعلموا به العساكر فتباشر المسلمون وقالوا في غد يركب معنا ويباشر الحصار ، ثم إن شركان قال لهم :
إنكم قاتلتم اليوم وتعبتم من القتال فينبغي أن تتوجهوا إلى أماكنكم وتناموا ولا تسهروا .
فأجابوه إلى ذلك وتوجه كل منهم إلى صرادقه وما بقي عند شركان سوى قليل من الغلمان والعجوز ذات الدواهي فتحدث معها قليلاً من الليل ، ثم اضطجع لينام وكذلك الغلمان ، فلما غلب عليهم النوم صاروا مثل الأموات .
هذا ما كان من أمر شركان وغلمانه .
وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي فإنها بعد نومهم صارت يقظانة وحدها في الخيمة نظرت إلى شركان فوجدته مستغرقاً في النوم ، فوثبت على قدميها كأنها دبة معطاء أو آفة نقطاء وأخرجت من وسطها خنجراً مسموماً لو وضع على صخرة لأذابها ثم جردته من غمده وأتت عند رأس شركان وجردته على رقبته فذبحته وأزالت رأسه عن جسده ثم وثبت على قدميها وأتت إلى الغلمان النيام وقطعت رؤوسهم لئلا ينتبهوا ثم خرجت من الخيمة وأتت إلى خيام السلطان ، فوجدت الحراس غير نائمين فمالت إلى خيمة الوزير دندان فوجدته يقرأ القرآن فوقعت عينه عليها فقال :
مرحباً بالزاهد العابد .
فلما سمعت ذلك من الوزير ارتجف قلبها وقالت له :
إن سبب مجيئي إلى هنا في هذا الوقت أني سمعت صوت ولي من أولياء الله وأنا ذاهب إليه .
ثم ولت .
فقال الوزير دندان في نفسه :
والله لأتبع هذا الزاهد في هذه الليلة .
فقام ومشى خلفها ، فلما أحست الملعونة بمشيه عرفت أنه وراءها فخشيت أن تفتضح وقالت في نفسها :
إن لم أخدعه بحيلة فإني أفتضح .
فأقبلت إليه وقالت :
أيها الوزير إني سائر خلف هذا الولي لأعرفه وبعد أن أعرفه أستأذنه في مجيئك إليه وأقبل عليك وأخبرك لأني أخاف أن تذهب معي بغير استئذان للولي فيحصل له نفرة مني إذا رآك معي .
فلما سمع الوزير كلامها استحى أن يرد عليها جواباً فتركها ورجع إلى خيمته وأراد أن ينام فما طاب له منام وكادت الدنيا أن تنطبق عليه فقام وخرج من خيمته وقال في نفسه :
أنا أمضي إلى شركان وأتحدث معه إلى الصباح فسار إلى أن دخل خيمة شركان فوجد الدم سائلاً منه كالقناة ونظر الغلمان مذبوحين فصاح صيحة أزعجت كل من كان نائماً ، فتسارعت الخلق إليه فرأوا الدم سائلاً فضجوا بالبكاء والنحيب .
فعند ذلك استيقظ السلطان ضوء المكان وسأل عن الخبر فقيل له :
إن شركان أخاك والغلمان مقتولون .
فقام مسرعاً إلى أن دخل الخيمة ، فوجد الوزير دندان يصيح ووجد جثة أخيه بلا رأس فغاب عن الدنيا وصاحت كل العساكر وبكوا وداروا حول ضوء المكان ساعة حتى استفاق ثم نظر إلى شركان وبكى بكاء شديداً وفعل مثله الوزير ورستم وبهرام ، وأما الحاجب فإنه صاح وأكثر من النواح ، ثم طلب الارتحال لما به من الأوجال فقال الملك :
أما علمتم بالذي فعل بأخي هذه الأفعال ومالي لا أرى الزاهد الذي عن متاع الدنيا متباعد ?
فقال الوزير :
ومن جلب هذه الأحزان إلا هذا الزاهد الشيطان فوالله إن قلبي نفر منه في الأول والآخر لأنني أعرف أن كل متنطح في الدين خبيث ماكر .
ثم إن الناس ضبوا بالبكاء والنحيب ، وتضرعوا إلى القريب المجيب أن يوقع في أيديهم ذلك الزاهد الذي هو لآيات الله جاحد ، ثم جهزوا شركان ودفنوه في الجبل المذكور وحزنوا على فضله المشهور .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثامنة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملعونة لما فرغت عن الداهية التي عملتها والمخازي التي لنفسها أبدتها ، أخذت دواة وقرطاساً وكتبت فيه :
من عند شواهي ذات الدواهي إلى حضرة المسلمين أعلموا أني دخلت بلادكم وغششت بلؤمي كرامكم وقتلت سابقاً ملككم عمر النعمان في وسط قصره وقتلت أيضاً في واقعة الشعب والمغارة رجالاً كثيرة وآخر من قتلته بمكري ودهائي وغدري شركان وغلمانه ، ولو ساعدني الزمان وطاوعني الشيطان كنت قتلت السلطان والوزير دندان وأنا الذي أتيت إليكم في زي الزاهد ، وانطلت عليكم من الحيل والمكايد فإن شئتم سلامتكم بعد ذلك فارحلوا وإن شئتم هلاك أنفسكم فعن الإقامة لا تعدلوا فلو أقمتم سنين وأعواماً ، لا تبلغون منا مراماً .
وبعد أن كتبت الكتاب أقامت في حزنها على الملك أفريدون ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع دعت بطريقاً وأمرته أن يأخذ الورقة ويضعها في سهم ويرميها إلى المسلمين .
ثم دخلت الكنيسة وصارت تندب وتبكي على فقد أفريدون وقالت :
لمن تسلطن بعده لا بد أن أقتل ضوء المكان وجميع أمراء الإسلام .
هذا ما كان من أمرها .
وأما ما كان من أمر المسلمين فإنهم أقاموا ثلاثة أيام في هم واغتمام وفي اليوم الرابع نظروا إلى ناحية السور وإذا ببطريق معه سهم نشاب ، وفي عرفه كتاب فصبروا عليه حتى رماه إليهم فأمر السلطان الوزير دندان أن يقرأه ، فلما قرأه وسمع ما فيه وعرف معناه هملت بالدموع عيناه ، وصاح وتضجر من مكرها وقال الوزير :
والله لقد كان قلبي نافراً منها .
فقال السلطان :
وهذه العاهرة كيف عملت علينا الحيلة مرتين والله لا أحول من هنا حتى أملأ فرجها بمسيح الرصاص وأسجنها سجن الطير في الأقفاص وبعد ذلك أصلبها من شعرها على باب القسطنطينية .
ثم تذكر أخاه فبكى بكاء شديداً .
ثم إن الكفار لما توجهت لهم ذات الدواهي وأخبرتهم بما حصل فرحوا بقتل شركان وسلامة ذات الدواهي .
ثم إن المسلمين رجعوا على باب القسطنطينية . ووعدهم السلطان أنه إذا فتح المدينة يفرق أموالها عليهم بالسوية .
هذا والسلطان لم تجف دموعه حزناً على أخيه واعترى جسمه الهزال حتى صار كالخلال فدخل عليه الوزير دندان وقال له :
طب نفساً وقر عيناً فإن أخاك ما مات إلا بأجله وليس في هذا الحزن فائدة وما أحسن قول الشاعر :
ما لا يكون فلا يكون بحـيلة ........ أبداً وما هو كائن سيكـون
سيكون ما هو كائن في وقته ........ وأخو الجهالة دائماً مغبون
فدع البكاء والنواح وقو قلبك لحمل السلاح .
فقال :
يا وزير إن قلبي مهموم من أجل موت أبي وأخي ومن أجل غيابنا عن بلادنا فإن خاطري مشغول برعيتي .
فبكى الوزير هو والحاضرون وما زالوا مقيمين على حصار القسطنطينية مدة من الزمان فبينما هم كذلك وإذا بالأخبار وردت عليهم من بغداد صحبة أمير من أمرائه مضمونها ، إن زوجة الملك ضوء المكان رزقت ولداً وسمته نزهة الزمان أخت الملك كان ما كان ولكن هذا الغلام سيكون له شأن بسبب ما رأوه من العجائب والغرائب وقد أمرت العلماء والخطباء أن يدعوا لكم على المنابر ودبر كل صلاة ، وإننا طيبون بخير والأمطار كثيرة إن صاحبك الوقاد في غاية النعمة الجزيلة وعنده الخدم والغلمان ولكنه إلى الآن لم يعلم بما جرى لك والسلام .
فقال له ضوء المكان :
اشتد ظهري حيث رزقت ولداً اسمه كان ما كان .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة التاسعة والعشرين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قال للوزير دندان :
إني أريد أن أترك هذا الحزن وأعمل لأخي ختمات وأموراً من الخيرات .
فقال الوزير :
نعم ما أردت .
ثم أمر بنصب الخيام على قبر أخيه ، فنصبوها وجمعوا من العسكر من يقرأ القرآن فصار بعضهم يذكر الله إلى الصباح ، ثم إنهم انصرفوا إلى الخيام وأقبل السلطان على الوزير دندان وأخذا يتشاورون في أمر القتال واستمرا على ذلك أياماً وليالي وضوء المكان يتضجر من الهم والأحزان ثم قال :
إني أشتهي سماع أخبار الناس وأحاديث الملوك ، وحكايات المتيمين لعل الله يفرج ما بقلبي من الهم الشديد ويذهب عني البكاء والمديد .
فقال الوزير :
إن كان ما يفرج همك أسماع قصص الملوك من نوادر الأخبار وحكايات المتقدمين من المتيمين وغيرهم فإن هذا الأمر سهل لأنني لم يكن لي شغل في حياة المرحوم والدك إلا الحكايات والأشعار وفي هذه الليلة أحدثك بخبر العاشق والمعشوق لأجل أن ينشرح صدرك .
فلما سمع ضوء المكان كلام الوزير دندان تعلق قلبه بما وعده به ولم يبق له اشتغال إلا بانتظار مجيء الليل لأجل أن يسمع ما يحكيه الوزير دندان ، من أخبار المتقدمين من الملوك والمتيمين فما صدق أن الليل أقبل ، حتى أمر بإيقاد الشموع والقناديل وإحضار ما يحتاجون إليه من الأكل والشرب وآلات البخور فأحضروا له جميع ذلك ، ثم أرسل إلى الوزير دندان فحضر وأرسل إلى بهرام رستم وتركاش والحاجب الكبير فحضروا .
فلما حضروا جميعهم بين يديه التفت إلى الوزير دندان وقال له :
اعلم أيها الوزير أن الليل قد أقبل وسدل جلابيته علينا وأسبل ، ونريد أن تحكي لنا ما وعدتنا من الحكايات .
فقال الوزير :
حباً وكرامة .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان وبداية حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان ، لما حضر الوزير والحاجب ورستم وبهرام التفت إلى الوزير دندان وقال للوزير :
اعلم أيها الوزير أن الليل قد أقبل وأسدل جلابيبه علينا وأسبل ونريد أن تحكي لنا ما وعدتنا به من الحكايات .
فقال الوزير :
حباً وكرامة .
ثم قال الوزير دندان :
اعلم أيها الملك السعيد أنه كان في سالف الزمان مدينة وراء جبال أصبهان يقال لها المدينة الخضراء وكان بها ملك يقال له الملك سليمان وكان صاحب جود وإحسان وعدل وأمان وفضل وامتنان وسارت إليه الركبان من كل مكان وشاع ذكره في سائر الأقطار والبلدان وأقام في المملكة مدة مديدة من الزمان وهو في عز وأمان إلا أنه كان خالياً من الأولاد والزوجات وكان له وزير يقاربه في الصفات من الجود والهبات فاتفق أنه أرسل إلى وزيره يوماً من الأيام وأحضره بين يديه وقال له :
يا وزير إنه ضاق صدري وعيل صبري وضعف مني الجلد لكوني بلا زوجة ولا ولد وما هذا سبيل الملوك الحكام على كل أمير وصعلوك فإنهم يفرحون بخلفة الأولاد وتتضاعف لهم بهم العدد والأعداد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تناكحوا وتناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة فما عندك من الرأي يا وزير فأشر علي بما فيه النصح من التدبير .
فلما سمع الوزير ذلك الكلام فاضت الدموع من عينيه بالانسجام وقال :
هيهات يا ملك الزمان أن أتكلم فيما هو خصائص الرحمن أتريد أن أدخل النار بسخط الملك الجبار ?
فقال له الملك :
اعلم أيها الوزير أن الملك إذا اشترى جارية لا يعلم حسبها ولا يعرف نسبها فهو لا يدري خساسة أصلها ، حتى يجتنبها ولا شرف عنصرها حتى يتسرى بها أفضى إليها ربما حملت منه فيجيء الولد منافقاً ظالماً سفاكاً للدماء ويكون مثلها مثل الأرض السخية إذا زرع فإنه يخبث نباته ولا يحسن نباته وقد يكون ذلك الولد متعرضاً لسخط مولاه ولا يفعل ما أمره به ولا يجتنب ما عنه نهاه فأنا لا أسبب في هذا بشراء جارية أبداً وإنما مرادي أن تخطب لي بنتاً من بنات الملوك يكون نسبها معروفاً وجمالها موصوفاً فإن دلتني على ذات النسب والدين من بنات ملوك المسلمين فإني أخطبها وأتزوج بها على رؤوس الأشهاد ليحصل لي بذلك رضا رب العباد .
فقال له الوزير :
إن الله قضى حاجتك وبلغك أمنيتك .
فقال له :
وكيف ذلك ?
فقال له :
اعلم أيها الملك أنه بلغني أن الملك زهر شاه صاحب الأرض البيضاء له بنت بارعة في الجمال يعجز عن وصفها القيل والقال ولم يوجد لها في هذا الزمان مثيل لأنها في غاية الكمال قويمة الاعتدال ذات طرف كحيل وشعر طويل وخصر نحيل وردف ثقيل إن أقبلت فتنت وإن أدبرت قتلت تأخذ القلب والناظر إليها كما قال الشاعر :
هيفاء يخجل غصن البان قامـتـها ........ لم يحك طلعتها شمـس ولا قمـر
كأنما ريقـها شهـد وقـد مـزجت ........ به المدامة ولكن ثـغـرهـا درر
ممشوقة القد من حور الجنان لـها ........ وجه جميل وفي ألحاظـهـا حور
وكم لها من قتيل مات كيد من كمـد ........ وفي طريق هواها الخوف والخطر
إن عشت فهي المنى ما شئت أذكرها ........ أو مت من دونها لم يجدني العمر
فلما فرغ الوزير من وصف تلك الجارية قال للملك سليمان شاه :
الرأي عندي أيها الملك أن ترسل إلى أبيها رسولاً فطناً خبيراً بالأمور مجرباً لتصاريف الدهور ليتلطف في خطبتها لك من أبيها فإنها لا نظير لها في قاصي الأرض ودانيها وتحظى منها بالوجه الجميل ويرضى عليك الرب الجليل ، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
لا رهبانية في الإسلام .
فعند ذلك توجه إلى الملك كمال الفرح واتسع صدره وانشرح وزال عنه الهم والغم ، ثم أقبل على الوزير وقال :
اعلم أيها الوزير أنه لا يتوجه لهذا الأمر إلا أنت لكمال عقلك وأدبك ، فقم إلى منزلك واقض أشغالك وتجهز في غد واخطب لي هذه البنت التي أشغلت بها خاطري ولا تعد لي إلا بها .
فقال :
سمعاً وطاعة .
ثم إن الوزير توجه إلى منزله واستدعى بالهدايا التي تصلح للملوك من ثمين الجواهر ونفيس الذخائر وغير ذلك مما هو خفيف في الحمل وثقيل في الثمن ومن الخيل العربية والدروع الداودية وصناديق المال التي يعجز عن وصفها المقال ، ثم حملوها على البغال والجمال وتوجه الوزير ومعه مائة مملوك ومائة جارية وانتشرت على رأسه الرايات والأعلام وأوصاه الملك أن يأتي إليه في مدة قليلة من الأيام .
وبعد توجهه صار الملك سليمان شاه على مقالي النار مشغولاً بحبها في الليل والنهار وسار الوزير ليلاً نهاراً يطوي برار وأقفار حتى بقي بينه وبين المدينة التي هو متوجه إليها يوم واحد ، ثم نزل شاطئ نهر واحضر بعض خواصه وأمره أن يتوجه إلى الملك زهر شاه بسرعة ويخبره بقدومه عليه فقال :
سمعاً وطاعة .
ثم توجه بسرعة إلى تلك المدينة فلما قدم عليها وافق قدومه أن الملك زهر شاه كان جالساً في بعض المنتزهات قدام باب المدينة فرآه وهو داخل وعرف أنه غريب فأمر بإحضاره بين يديه ، فلما حضر الرسول وأخبره بقدوم وزير الملك الأعظم سليمان شاه صاحب الأرض الخضراء وجبال أصفهان ففرح الملك زهر شاه ورحب بالرسول وأخذه وتوجه إلى قصره وقال :
أين فارقت الوزير ?
فقال :
فارقته على شاطئ النهر الفلاني وفي غد يكون واصلاً إليك وقادماً عليك أدام الله نعمته عليك ورحم والديك .
فأمر زهر شاه بعض وزرائه أن يأخذ معظم خواصه وحجابه ونوابه وأرباب دولته ويخرج بهم إلى مقابلته تعظيماً للملك سليمان شاه لأن حكمه نافذ في الأرض .
هذا ما كان من أمر الملك زهر شاه .
وأما ما كان من أمر الوزير فإنه استقر في مكان إلى نصف الليل ثم رحل متوجهاً إلى المدينة فلما لاح الصباح وأشرقت الشمس على الروابي والبطاح لم يشعر إلا ووزير الملك زهر شاه وحجابه وأرباب دولته وخواص مملكته قدموا عليه واجتمعوا به على فراسخ من المدينة فأيقن الوزير بقضاء حاجته وسلم على الذين قابلوه ولم يزالوا سائرين قدامه حتى وصلوا إلى قصر الملك ودخلوا بين يديه في باب القصر إلى سابع دهليز وهو المكان الذي لا يدخله الراكب لأنه قريب من الملك فترجل الوزير وسعى على قدميه حتى وصل إلى إيوان عال وفي صدر ذلك الإيوان سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر وله أربعة قوائم من أنياب الفيل وعلى ذلك السرير مرتبة من الأطلس الأخضر مطرزة بالذهب لأحمر ومن فوقها سرادق بالدر والجوهر والملك زهر شاه جالس على ذلك السرير وأرباب دولته واقفون في خدمته .
فلما دخل الوزير عليه وصار بين يديه ثبت جنانه وأطلق لسانه وأبدى فصاحة الوزراء وتكلم بكلام البلغاء .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثانية والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد ثم إنهم أحضروا الوصائف التركيات وأصحب العروسة بنفيس الذخائر وثمين الجواهر ثم صنع محفة من الذهب الأحمر مرصعة بالدر والجوهر وأفرد لها عشرة بغال للمسير وصارت تلك المحفة كأنها مقصورة من المقاصير وصاحبتها كأنها حورية من الحور الحسان وخدرها كقصر من قصور الجنان ثم حزموا الذخائر والأموال وحملوها على البغال والجمال وتوجه الملك زهر شاه معهم قدر ثلاثة فراسخ ، ثم ودع ابنته وودع الوزير ومن معه ورجع إلى الأوطان في فرح وأمان وتوجه الوزير بابنة الملك وسار ولم يزل يطوي المراحل والقفار .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثالثة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير توجه بابنة الملك وسار ولم يزل يطوي المراحل والقفار ويجد المسير في الليلة والنهار حتى بقي بينه وبين بلاده ثلاثة أيام ثم أرسل إلى الملك سليمان شاه من يخبره بقدوم العروسة فأسرع الرسول بالسير حتى وصل إلى الملك وأخبره بقدوم العروسة ففرح الملك سليمان شاه وخلع على الرسول وأمر عساكره أن يخرجوا في موكب عظيم إلى ملاقاة العروسة ومن معها بالتكريم وأن يكونوا في أحسن البهجات وأن ينشروا على رؤوسهم الرايات فامتثلوا لأوامره ونادى المنادي أنه لا تبقى بنت مخدرة ولا حرة موقرة ولا عجوز مكسرة إلا وتخرج إلى لقاء العروسة فخرجوا جميعاً إلى لقائها وسعت كبراؤهم في خدمتها واتفقوا على أن يتوجهوا بها في الليل إلى قصر الملك واتفق أرباب الدولة على أن يزينوا الطريق وأن يقفوا حتى تمر بهم العروسة والخدم قدامها والجواري بين يديها وعليها الخلعة التي أعطاها لها أبوها .
فلما أقبلت أحاط بها العسكر ذات اليمين وذات الشمال ولم تزل المحفة سائرة بها إلى أن قربت من القصر ولم يبق أحد إلا وقد خرج ليتفرج عليها وصارت الطبول ضاربة والرماح لاعبة والبوقات صائحة وروائح الطيب فائحة والرايات خافقة والخيل متسابقة حتى وصلوا إلى باب القصر وتقدمت الغلمان بالمحفة إلى باب السر فأضاء المكان ببهجتها وأشرقت جهاته بحلي زينتها فلما أقبل الليل فتح الخدم أبواب السرادق ووقفوا وهم محيطون بالباب ، ثم جاءت العروسة وهي بين الجواري كالقمر بين النجوم أو الدرة الفريدة بين اللؤلؤ المنظوم ، ثم دخلت المقصورة وقد نصبوا لها سرير من المرمر المرصع بالدر والجوهر فجلست عليه ودخل عليها الملك وأوقع الله محبتها في قلبه فأزال بكارتها وزال ما كان عنده من القلب والسهر وأقام عندها نحو شهر فعلقت منه في أول ليلة .
وبعد تمام الشهر خرج وجلس على سرير مملكته وعدل في رعيته إلى أن وفت أشهرها .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الرابعة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك عندما جلس على سرير مملكته إلى أن وفت زوجته أشهرها وفي آخر ليلة الشهر التاسع جاءها المخاض عند السحر فجلست على كرسي الطلق وهون الله عليها الولادة فوضعت غلاماً ذكراً تلوح عليه علامات السعادة ، فلما سمع الملك بالولد فرح فرحاً جليلاً وأعطى المبشر مالاً جزيلاً ، ومن فرحته توجه إلى الغلام وقبله بين عينيه وتعجب من جماله الباهر وتحقق فيه قول الشاعر :
الله خول منـه آجـام الـفـلا ........ أسداً وآفاق الرياسة كوكـبـا
هشت لمطلعه الأسنة والأسـرة ........ والمحافل والجحافل والظبـى
لا تركبوه على النهـود فـإنـه ........ ليرى ظهور الخيل أوطأ مركبا
ولتفطموه عن الرضاع فـإنـه ........ ليرى دم الأعداء أحلى مشربـا
ثم إن الدايات أخذن ذلك المولود وقطعن سرته وكحلن مقلته ثم سموه تاج الملوك خاران وارتضع ثدي الدلال وتربى في حجر الإقبال ، ولا زالت الأيام تجري والأعوام تمضي حتى صار له من العمر سبع سنين ، فعند ذلك أحضر الملك سليمان شاه العلماء والحكماء وأمرهم أن يعلموا ولده الخط والحكمة والأدب فمكثوا على ذلك مدة سنين حتى تعلم ما يحتاج إليه الأمر ، فلما عرف جميع ما طلبه منه الملك أحضره من عند الفقهاء والمعلمين واحضر له أستاذاً يعلمه الفروسية فلم يزل يعلمه حتى صار له من العمر أربعة عشر سنة ، وكان إذا خرج لبعض أشغاله يفتتن به كل من رآه .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الخامسة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك خاران بن الملك سليمان شاه مهر في الفروسية وفاق أهل زمانه وصار من فرط جماله إذا خرج إلى بعض أشغاله يفتتن به كل من رآه حتى نظموا فيه الأشعار وتهتكت في محبته الأحرار لما حوى من الجمال الباهر كما قال فيه الشاعر :
عانقته فسكرت مـن طـيب الشـذا ........ غصناً طيباً بالنسيم قد اغـتـدى
سكران ما شـرب المـدام وإنـمـا ........ أمسى بخمر رضابه متـنـبـذا
أضحى الجمـال بأسره فـي أسـره ........ فلأجل ذلك على القلوب استحوذا
والله ما خـطر السـلو بخـاطـري ........ ما دمت في قيد الحـياة ولا إذا
إن عشت عشت على هواه وإن مت ........ وجداً بـه وصـبـابة يا حـبذا
فلما بلغ من العمر ثمانية عشر عاماً وبلغ مبلغ لرجال زاد به الجمال ثم صار لتاج الملوك خاران أصحاب وأحباب وكل من تقرب إليه يرجو أنه يصير سلطاناً بعد موت أبيه وأن يكون عنده أميراً .
ثم إنه تعلق بالصيد والقنص وصار لم يفتر عنه ساعة واحدة وكان والده سليمان شاه ينهاه عن ذلك مخافة عليه من آفات البر والوحوش فلم يقبل منه ذلك ، فاتفق أنه قال لخدامه :
خذوا معكم عليق عشرة أيام .
فامتثلوا لما أمرهم به ، فلما خرج بأتباعه للصيد والقنص .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة السادسة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك لما أمر خدامه بالخروج وساروا في البر ولم يزالوا سائرين أربعة أيام حتى أشرفوا على أرض خضراء فيها وحوشاً راتعة وأشجار يانعة وعيوناً نابعة فقال تاج الملوك لأتباعه :
انصبوا الحبائل هنا وأوسعوا دائرة حلقتها ويكون اجتماعنا عند رأس الحلقة في المكان الفلاني .
فامتثلوا لأمره ونصبوا الحبائل وأوسعوا دائرة حلقتها فاجتمع فيها شيء كثير من أصناف الوحوش والغزلان إلى أن ضجت منهم الوحوش وتنافرت في وجوه الخيل فأغرى عليها الكلاب والفهود والصقور ثم ضربوا الوحوش بالنشاب فأصابوا مقاتل الوحوش وما وصلوا إلى آخر الحلقة لا وقد أخذوا من الوحوش شيئاً كثيراً وهرب الباقي ، وبعد ذلك نزل تاج الملوك على الماء وأحضر الصيد وقسمه وأفرد لأبيه سليمان شاه خاص الوحوش وأرسله إليه وفرق البعض على أرباب دولته .
فلما أصبح الصباح أقبلت عليه قافلة كبيرة مشتملة على عبيد وغلمان وتجار فنزلت تلك القافلة على الماء والخضرة فلما رآهم تاج الملوك قال لبعض أصحابه :
ائتني بخبر هؤلاء واسألهم لأي شيء نزلوا في هذا المكان ؟
فلما توجه إليهم الرسول قال لهم :
أخبرونا من أنتم وأسرعوا في رد الجواب .
فقالوا له :
نحن تجار ونزلنا لأجل الراحة لأن المنزل بعيد علينا وقد نزلنا في هذا المكان لأننا مطمئنون بالملك سليمان شاه وولده ونعلم أن كل من نزل في هذا المكان صار في أمان واطمئنان ومعنا قماش نفيس جئنا به من أجل ولده تاج الملوك .
فرجع الرسول إلى ابن الملك وأعلمه بحقيقة الحال وأخبره بما سمعه من التجار فقال ابن الملك :
إذا كان معهم شيء جاؤوا به من أجلي فما أدخل المدينة ولا أرحل من هذا المكان حتى أستعرضه .
ثم ركب جواده وسار وسارت مماليكه خلفه إلى أن أشرف على القافلة فقام له التجار ودعوا له بالنصر والإقبال ودوام العز والأفضال وقد ضربت له خيمة من الأطلس الأحمر مزركشة من الدر والجوهر وفرش له مقعداً سلطانياً فوق بساط من الحرير وصدره مزركش بالزمرد فجلس تاج الملوك ووقفت المماليك في خدمته وأرسل إلى التجار وأمرهم أن يحضروا بجميع ما معهم فأقبلت عليه التجار ببضائعهم فاستعرض جميع بضائعه وأخذ منها ما يصلح له ووفى لهم بالثمن ثم ركب وأراد أن يسير فلاحت منه التفاتة إلى القافلة فرأى شاب جميل الشباب نظيف الثياب ، ظريف المعاني بجبين أزهر ووجه أقمر إلا أن ذلك الشاب قد تغيرت محاسنه وعلاه الاصفرار من فرقة الأحباب .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة السابعة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك لاحت منه التفاتة إلى القافلة فرأى شاباً جميل الشباب نظيف الثياب ظريف المعاني ، إلا أن ذلك الشاب قد تغيرت محاسنه وعلاه الاصفرار من فرقة الأحباب وزاد به الانتحاب وسالت من جبينه العبرات وهو ينشد هذه الأبيات :
طال الفراق ودام الهـم والـوجـل ........ والدمع في مقلتي يا صاح منهمل
والقلب ودعته يوم الفـراق وقـد ........ بقيت فرداً فلا قـلـب ولا أمـل
يا صاحبي قف معي حتى أودع من ........ من نطقها تشفى الأمراض والعلل
ثم إن الشاب بعدما فرغ من الشعر بكى ساعة وغشي عليه فلما رآه تاج الملوك على هذه الحالة في أمره وتمشى إليه فلما أفاق من غشيته نظر ابن الملك واقفاً على رأسه فنهض قائماً على قدميه وفي الأرض بين يديه فقال له تاج الملوك :
لأي شيء لم تعرض بضاعتك علينا ?
فقال :
يا مولاي إن بضاعتي ليس فيها شيء يصلح لسعادتك .
فقال :
لابد أن تعرض علي ما معك وتخبرني بحالك فإني أراك باكي العين حزين القلب فإن كنت مظلوماً أزلنا ظلامتك وإن كنت مديوناً قضينا دينك فإن قلبي قد احترق من أجلك حين رأيتك .
ثم إن تاج الملوك أمر بنصب كرسي فنصبوا له كرسياً من العاج والأبنوس مشبكاً بالذهب والحرير وبسطوا له بساطاً من الحرير فجلس تاج الملوك على الكرسي وأمر الشاب أن يجلس على البساط وقال له :
اعرض علي بضاعتك .
فقال له الشاب :
يا مولاي لا تذكر لي ذلك فإن بضاعتي ليست مناسبة لك .
فقال له تاج الملوك :
لابد من ذلك .
ثم أمر بعض غلمانه بإحضارها فأحضروها قهراً عنه فلما رآها الشاب جرت دموعه وبكى وأن واشتكى وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات :
بما بجفنيك من غنج ومن كـحـل ........ وما بقدك من لـين ومـن مـيل
وما بثغرك من خمر ومن شـهـد ........ وما بعطفك من لطف ومن ملـل
عندي زيارة طيف منك يا أمـلـي ........ أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
ثم إن الشاب فتح بضاعته وعرضها على تاج الملوك قطعة قطعة وتفصيلة وأخرج من جملتها ثوباً من الأطلس منسوجاً بالذهب يساوي ألف دينار ، فلما فتح الثوب وقع من وسطه خرقة فأخذها الشاب بسرعة ووضعها تحت وركه فقال له تاج الملوك :
ما هذه الخرقة ?
فقال :
يا مولاي ليس لك بهذه الخرقة حاجة .
فقال له ابن الملك :
أرني أياها .
قال له :
ما امتنعت من عرض بضاعتي عليك إلا لأجلها فإني لا أقدر على أنك تنظر إليها .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثامنة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
أنا ما امتنعت من عرض بضاعتي عليك إلا لأجلها فإني لا أقدر على أنك تنظر إليها .
فقال له تاج الملوك :
لابد من كوني أنظر إليها .
وألح عليه واغتاظ ، فأخرجها من تحت ركبتيه وبكى فقال له تاج الملوك :
أرى أحوالك غير مستقيمة فأخبرني ما سبب بكائك عند نظرك إلى هذه الخرقة ?
فلما سمع الشاب ذكر الخرقة ، تنهد وقال :
يا مولاي إن حديثي عجيب وأمري غريب ، مع هذه الخرقة وصاحبتها وصاحبة هذه الصور والتماثيل .
ثم نشر الخرقة وإذا فيها غزال مرقومة بالحرير مزركشة بالذهب الأحمر وقبالها صورة غزال آخر وهي مرقومة بالفضة وفي رقبته طوق من الذهب الأمر وثلاث قصبات من الزبرجد فلما نظر تاج الملوك إليه وإلى حسن صنعته قال :
سبحان الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم .
وتعلق قلب تاج الملوك بحديث هذا الشاب فقال له :
احك لي قصتك مع صاحبة هذا الغزال .
فقال الشاب :
اعلم يا مولاي أن أبي كان من التجار الكبار ولم يرزق ولداً غيري وكان لي بنت عم تربيت أنا وإياها في بيت أبي لأن أباها مات ، وكان قبل موته تعاهد هو وأبي على أن يزوجاني بها فلما بلغت مبلغ الرجال وبلغت هي مبلغ النساء لم يحجبوها عني ولم يحجبوني عنها ، ثم تحدث والدي مع أمي وقال لها :
في هذه السنة نكتب كتاب عزيز على عزيزة .
واتفق مع أمي على هذا الأمر ثم شرع أبي في تجهيز مؤن الولائم هذا كله وأنا وبنت عمي ننام مع بعضنا في فراش واحد ولم ندر كيف الحال وكانت هي أشعر مني ، وأعرف وأدرى ، فلما جهز أبي أدوات الفرح ولم يبق غير كتب الكتاب ، والدخول على بنت عمي أراد أبي أن يكتب الكتاب بعد صلاة الجمعة ، ثم توجه إلى أصحابه من التجار وغيرهم وأعلمهم بذلك ومضت أمي عزمت صواحباتها من النساء ودعت أقاربها .
فلما جاء يوم الجمعة غسلوا القاعة المعدة للجلوس وغسلوا رخامها وفرشوا في دارنا البسط ووضعوا فيها ما يحتاج إليه الأمر بعد أن زوقوا حيطانها بالقماش المقصب واتفق الناس أن يجيئوا بيتنا بعد صلاة الجمعة ثم مضى أبي وعمل الحلويات وأطباق السكر وما بقي غير كتب الكتاب ، وقد أرسلتني أمي إلى الحمام وأرسلت خلفي بدلة جديدة من أفخر الثياب ، فلما خرجت من الحمام لبست تلك البدلة الفاخرة وكانت مطيبة فلما لبستها فاحت منها رائحة زكية عبقت في الطريق ، ثم أردت أن أذهب إلى الجامع فتذكرت صاحباً لي فرجعت أفتش عليه ليحضر كتب الكتاب وقلت في نفسي :
أشتغل بهذا الأمر إلى أن يقرب وقت الصلاة .
ثم إني دخلت زقاقاً ما دخلته قط وكنت عرقان من أثر الحمام والقماش الجديد الذي على جسدي فساح عرقي وفحت روائحي فقعدت في رأس الزقاق لأرتاح على مصطبة ، وفرشت تحتي منديلاً مطرزاً كان معي فاشتد الحر فعرق جبيني وصار العرق ينحدر على وجهي ولم يمكن مسح العرق عن وجهي بالمنديل لأنه مفروش تحتي ، فأردت أن آخذ ذيل فرجيتي وأمسح وجنتي فما أدري إلا ومنديل أبيض وقع علي من فوق وكان ذلك المنديل أرق من النسيم ورؤيته ألطف من شفاء السقيم فمسكته بيدي ورفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل ، فوقعت عيناي في عين صاحبة هذا الغزال .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة التاسعة والثلاثين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
فرفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل فوقعت عيني في عين صاحبة هذا الغزال وإذا بها مطلة من طاقة من شباك نحاس لم تر عيني أجمل منها ، وبالجملة يعجز عن وصفها لساني فلما رأتني نظرت إليها وضعت إصبعها في فمها ثم أخذت إصبعها الوسطاني وألصقته بإصبعها الشاهد ووضعتهما على صدرها بين نهديها ثم أدخلت رأساً من الطاقة وسدت باب الطاقة وانصرفت فانطلقت في قلبي النار وزاد بي الاستعار وأعقبتني النظرة ألف حسرة وتحيرت لأني لم أسمع ما قالت ولم أفهم ما به أشارت فنظرت إلى الطاقة ثانياً ، فوجدتها مطبوقة فصبرت إلى مغيب الشمس فلم أسمع حساً ولم أر شخصاً فلما يئست من رؤيتها قمت من مكاني وأخذت المنديل معي ، ثم فتحته ففاحت منه رائحة المسك حصل لي من تلك الرائحة طرب عظيم حتى صرت كأنني في الجنة ، ثم نشرته بين يدي فسقطت منه ورقة لطيفة ففتحت الورقة فرأيتها مضمخة بالروائح الزكيات ومكتوب عليها هذه الأبيات :
بعثت له أشكو من ألم الجوى ........ بخط رقيق والخطوط فنون
فقال خليلي ما لخطك هـكذا ........ رقيقاً دقيقاً لا يكـاد يبـين
فقلت لأني في نحـول ودقة ........ كذا خطوط العاشقين تكون
ثم بعد أن قرأت الأبيات أطلقت في بهجة المنديل ، نظر العين فرأيت في إحدى حاشيته تسطير هذين البيتين :
كتب العذار ويا له من كاتـب ........ سطرين في خديه بالريحان
وأخيرة القمرين منه إذا بـدا ........ وإذا انثنى وأخجله الأغصان
وسطر الحاشية الأخرى هذين البيتين :
كتب العـذار بعنبـر فـي لـؤلـؤ ........ سطرين من سبج علـى تـفـاح
القتل في الحدق المراضي إذا رنت ........ والسكر في الوجنات لا في الراح
فلما رأيت ما على المنديل من أشعار انطلق في فؤادي لهيب النار ، وزادت بي الأشواق والأفكار وأخذت المنديل والورقة وأتيت بهما إلى البيت وأنا لا أدري لي حيلة في الوصال ولا أستطيع في العشق وتفصيل الأجمال ، فما وصلت إلى البيت إلا بعد مدة من الليل فرأيت بنت عمي جالسة تبكي فلما رأتي مسحت دموعها وأقبلت علي وقلعتني ثيابي وسألتني عن سبب غيابي وأخبرتني أن جميع الناس من أمراء وكبراء وتجار وغيرهم قد اجتمعوا في بيتنا وحضر القاضي والشهود ، وأكلوا الطعام واستمروا مدة جالسين ينتظرون حضورك من أجل كتب الكتاب فلما يئسوا من حضورك تفرقوا وذهبوا إلى حال سبيلهم وقالت لي :
أباك اغتاظ بسبب ذلك غيظاً شديداً وحلف أنه لا يكتب كتابنا إلا في السنة القابلة لأنه غرم في هذا الفرح مالاً كثيراً .
ثم قالت لي :
ما الذي جرى لك في هذا اليوم حتى تأخرت إلى هذا الوقت وحصل ما حصل بسبب غيابك ?
فقلت لها :
جرى لي كذا وكذا .
وذكرت لها المنديل وأخبرتها بالخبر من أوله إلى آخره فأخذت الورقة والمنديل ، وقرأت ما فيهما وجرت دموعها على خدودها وأنشدت هذه الأبيات :
من قال أول الهـوى اخـتـيار ........ فقل كذبت كلـه اضـطـرار
وليس بعد الاضـطـرار عـار ........ دلت على صحتـه الأخـبـار
ما زيفت على صحـيح الـنـقـد
فإن تشـأ فقـل عـذاب يعـذب ........ أو ضربان في الحشى أو ضرب
نعــمة أو نـقـــمة أو أرب ........ تأتنس النفس له أو تـعـطـب
قد حـرت بين عكـسه والطـرد
ومـع ذا أيامـه مـواســـم ........ وثغرهـا على الـدوام بـاسـم
ونفحـات طـيبـهـا نـواسـم ........ وهو لكل مـا يشـين حـاسـم
ما حل قط قلـب نـذل وغـد
ثم إنها قالت لي :
فما قالت لك وما أشارت به إليك ?
فقلت لها :
ما نطقت بشيء غير أنها وضعت إصبعها في فمها ثم قرنتها بالإصبع الوسطى وجعلت الإصبعين على صدرها وأشارت إلى الأرض ثم أدخلت رأسها وأغلقت الطاقة ولم أرها بعد ذلك فأخذت قلبي معها فقعدت إلى غياب الشمس أنها تطل من الطاقة ثانياً فلا تفعل فلما يئست منها قمت من ذلك المكان وهذه قصتي وأشتهي منك أن تعينيني على ما بليت .
فرفعت رأسها إلي وقالت :
يا ابن عمي لو طلبت عيني لأخرجتها لك من جفوني ، ولا بد أن أساعدك على حاجتك وأساعدها على حاجتها فإنها مغرمة بك كما أنك مغرم بها .
فقلت لها :
وما تفسير ما أشارت به ?
قالت :
أما موضع إصبعها في فمها فإنه إشارة إلى أنك عندها بمنزلة روحها من جسدها وإنما تعض على وصالك بالنواجذ وأما المنديل فإنه إشارة إلى سلام المحبين على المحبوبين وأما الورقة فإنها إشارة إلى أن روحها متعلقة بك وأما موضع إصبعيها على صدريها بين نهديها ، فتفسيره أنها تقول لك بعد يومين تعال هنا ليزول عني بطلعتك العناء ، اعلم يا ابن عمي أنها لك عاشقة وبك واثقة وهذا ما عندي من التفسير لإشارتها ولو كنت أدخل وأخرج لجمعت بينك وبينها في أسرع وقت وأستركما بذيلي .
قال الغلام :
فلما سمعت ذلك منها شكرتها على قولها وقلت في نفسي :
أنا اصبر يومين .
ثم قعدت في البيت يومين لا أدخل ولا أخرج ولا آكل ولا أشرب ووضعت رأسي في حجر ابنة عمي وهي تسلني وتقول :
قوي عزمك وهمتك طيب قلبك وخاطرك .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
فلما انقضى اليومان قالت لي ابنة عمي :
طب نفساً وقر عيناً والبس ثيابك وتوجه إليها على الميعاد ثم إنها قامت وغيرت أثوابي وبخرتني .
ثم شددت حيلي وقويت قلبي وخرجت وتمشيت إلى أن دخلت الزقاق وجلست على المصطبة قناعه وإذا بالطاقة قد انفتحت فنظرت بعيني إليها ، فلما رأيتها وقعت مغشياً علي ثم أفقت فشددت عزمي وقويت قلبي ونظرت إليها ثانياً فغبت عن الوجود ، ثم استفقت فرأيت معها مرآة ومنديلاً أحمر ، رأتني شمرت عن ساعديها وفتحت أصابعها الخمس ، ودقت بها على صدرها بالكف والخمس أصابع ثم رفعت يديها وأبرزت الماء من الطاقة ، وأخذت المنديل الأحمر ودخلت به وعادت وأدلته من الطاقة إلى صوب الزقاق ثلاث مرات وهي تدليه وترفعه ثم عصرته ولفته بيدها وطأطأت رأسها ثم جذبتها من الطاقة وأغلقت الطاقة وانصرفت ، ولم تكلمني كلمة واحدة بل تركتني حيران لا أعلم ما أشارت به ، واستمريت جالساً إلى وقت العشاء ، ثم جئت إلى البيت قرب نصف الليل ، فوجدت ابنة عمي واضعة يدها على خدها وأجفانها تسكب العبرات وهي تنشد هذه الأبيات :
مالـي وللاحـي عـلـيك يعـنـف ........ كيف السلو وأنت غصـن أهـيف
يا طلعة سلبت فـؤادي وانـثـنـت ........ ما للهوى العذري عنها مصـرف
تركية الألحاظ تفـعل بـالـحـشـا ........ ما ليس يفعله الصقيل المـرهـف
حملتني ثقل الـغـرام ولـيس لـي ........ جلد على حمل القميص وأضعـف
ولقد بكيت دمـاً لقـول عـوازلـي ........ من جفن من تهوى بروعك مرهف
يا ليت قلبي مثل قـلـبـك إنـمـا ........ جسمي كخصرك بالنحافة ملتـف
لك يا أميري فـي الملاحة نـاظـر ........ صعب علي وحاجب لا ينـصـف
كذب الذي قال المـلاحة كـلـهـا ........ في يوسف كم في جمالك يوسـف
أتكـلف الإعراض عنـك مـخـافة ........ من أعين الرقباء كـم أتـكـلـف
فلما سمعت شعرها زاد ما بي من الهموم وتكاثرت علي الغموم ووقعت في زوايا البيت فنهضت إلي وحملتني وقلعتني أثوابي ومسحت وجهي بكمها ، ثم سألتني عما جرى لي فحكيت لها جميع ما حصل منها فقالت :
يا ابن عمي أما إشارتها بالكف والخمسة أصابع فإن تفسيره تعال بعد خمسة أيام وأما إشارتها بالمرآة وإبراز رأسها من الطاقة فإن تفسيره اقعد على دكان الصباغ حتى يأتيك رسولي .
فلما سمعت كلامها اشتعلت النار في قلبي وقلت :
بالله يا بنت عمي إنك تصدقيني في هذا التفسير لأني رأيت في الزقاق صباغاً يهودياً .
ثم بكيت فقالت ابنة عمي :
قوي عزمك وثبت قلبك فإن غيرك يشتغل بالعشق مدة سنين ويتجلد على حر الغرام وأنت لك جمعة فكيف يحصل لك هذا الجزع .
ثم أخذت بالكلام وأتت لي بالطعام فأخذت لقمة وأردت أن آكلها فما قدرت فامتنعت من الشراب والطعام وهجرت لذيذ المنام واصفر لوني وتغيرت محاسني لأني ما عشقت قبل ذلك ولا ذقت حرارة العشق إلا في هذه المرة فضعفت بنت عمي من أجلي وصارت تذكر لي أحوال العشاق والمحبين على سبيل التسلي في كل ليلة إلى أن أنام ، وكنت أستيقظ فأجدها سهرانة من أجلي ودمعها يجري على خدها ولم أزل كذلك إلى أن مضت الخمسة أيام فقامت ابنة عمي وسخنت لي ماء وحممتني وألبستني ثيابي وقالت لي :
توجه إليها قضى الله حاجتك وبلغك مقصودك من محبوبتك .
فمضيت ولم أزل ماشياً إلى أن أتيت إلى رأس الزقاق وكان ذلك في يوم السبت فرأيت دكان الصباغ مقفلة فجلست عليها حتى أذن العصر واصفرت الشمس وأذن المغرب ودخل الليل وأنا لا أدري لها أثراً ولم أسمع حساً ولا خبراً فخشيت على نفسي وأنا جالس وحدي ، فقمت وتمشيت وأنا كالسكران إلى أن دخلت البيت ، فلما دخلت رأيت ابنة عمي عزيزة وإحدى يديها قابضة على وتد مدقوق في الحائط ويدها الأخرى على صدرها وهي تصعد الزفرات وتنشد هذه الأبيات :
وما وجد أعرابية بان أهلـهـا ........ فحنت إلى بان الحجارة ورنده
إذا آنست ركباً تكفل شوقـهـا ........ بنار قرأه والدمـوع بـورده
بأعظم من وجدي بحبي وإنمـا ........ يرى أنني أذنبت ذنبـاً بـوده
فلما فرغت من شعرها التفتت إلي فرأتني أبكي فمسحت دموعها ودموعي بكمها وتبسمت في وجهي وقالت لي :
يا ابن عمي هناك الله بما أعطاك فلأي شيء لم تبت الليلة عند محبوبتك ولم تقض منها إربك .
فلما سمعت كلامها رفستها برجلي في صدرها فانقلبت على الإيوان فجاءت جبهتها على طرف الإيوان وكان هناك وتد فجاء في جبهتها فتأملتها قد انفتح وسال دمها .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الحادية والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
فلما رفست ابنة عمي في صدرها انقلبت على طرف الإيوان فجاء الوتد في جبينها وسال دمها فسكتت ولم تنطق بحرف واحد ، ثم إنها قامت في الحال وأحرقت حرقاً وحشت به ذلك الجرح وتعصبت بعصابة ومسحت الدم الذي سال على البساط وكأن ذلك شيء ما كان ، ثم إنها أتتني وتبسمت في وجهي وقالت لي بلين الكلام :
والله يا ابن عم ما قلت هذا الكلام استهزاء بك ولا بها وقد كنت مشغولة بوجع رأسي ومسح الدم في هذه الساعة قد خفت رأسي وخفت جبهتي فأخبرني بما كان من أمرك .
فحكيت لها جميع ما وقع لي منها في ذلك اليوم وبعد كلامي بكيت فقالت :
يا ابن عمي أبشر بنجاح قصدك وبلوغ أملك إن هذه علامة القبول وذلك أنها غابت لأنها تريد أن تختبرك وتعرف هل أنت صابر أو لا وهل أنت صادق في محبتها أو لا ، وفي غد توجه إليها في مكانك الأول وانظر ماذا تشير به إليك فقد قربت أفراحك وزالت أتراحك .
وصارت تسليني على ما بي وأنا لم أزل متزايد الهموم والغموم ، ثم قدمت لي الطعام فرفسته فانكبت كل زبدية في ناحية وقلت :
كل من كان عاشقاً فهو مجنون لا يميل إلى الطعام ولا يلتذ بمنام .
فقالت لي ابنة عمي عزيزة :
والله يا ابن عمي إن هذه علامة المحبة .
وسالت دموعها ولمت شقافة الزبادي ومسحت الطعام وجلست تسايرني وأنا أدعو الله أن يصبح الصباح .
فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح توجهت إليها ودخلت ذلك الزقاق بسرعة وجلست على تلك المصطبة وإذا بالطاقة انفتحت وأبرزت رأسها منها وهي تضحك ، ثم رجعت وهي معها مرآة وكيس وقصرية ممتلئة زرعاً أخضر وفي يدها قنديل ، فأول ما فعلت أخذت المرآة في يدها وأدخلتها في الكيس ثم ربطته ورمته في البيت ثم أرخت شعرها على وجهها ثم وضعت القنديل على رأس الزرع لحظة ثم أخذت جميع ذلك وانصرفت به وأغلقت الطاقة فانفطر قلبي من هذا الحال ومن إشاراتها الخفية ورموزها المخفية وهي لم تكلمني بكلمة قط فاشتد بذلك غرامي وزاد وجدي وهيامي ، ثم إني رجعت على عقبي وأنا باكي العين حزين القلب حتى دخلت البيت فرأيت بنت عمي قاعدة ووجهها إلى الحائط وقد احترق قلبها من الهم والغم والغيرة ولكن نكبتها منعتها أن تخبرني بشيء مما عندها من الغرام لما رأت ما أنا فيه من كثرة الوجد والهيام ، ثم نظرت إليها فرأيت على رأسها عصابتين إحداهما من الوقعة على جبهتها والأخرى على عينيها بسبب وجع أصابها من شدة بكائها وهي في أسوأ الحالات تبكي وتنشد هذه الأبيات :
أينما كنت لـم تـزل بـأمـان ........ أيها الراحل المقيم بقـلـبـي
ولك الله حيث أمـسـيت حـار ........ منقذ من صروف دهر وخطب
ليت شعري بـأي أرض ومغنى ........ أنت مستوطن بدار وشـعـب
إن يكن شربك الـقـراح زلالا ........ فدموعي من المحاجر شربـي
كل شيء سوى فراقك عـذب ........ كالتجافي بين الرقاد وجنـبـي
فلا فرغت من شعرها نظرت إلي فرأتني وهي تبكي فمسحت دموعها ونهضت إلي ولم تقدر أن تتكلم مما هي فيه من الوجد ولم تزل ساكتة برهة من الزمان ، ثم بعد ذلك قالت :
يا ابن عمي أخبرني بما حصل لك منها في هذه المرة .
فأخبرتها بجميع ما حصل لي فقالت لي :
اصبر فقد آن أوان وصالك وظفرت ببلوغ آمالك ، أما إشارتها لك بالمرآة وكونها أدخلتها في الكيس فإنها تقول لك :
اصبر إلى أن تغطس الشمس .
وأما إرخاؤها شعرها على وجهها فإنها تقول لك :
إذا أقبل الليل وانسدل سواد الظلام على نور النهار فتعال .
وأما إشارتها لك بالقصرية التي فيها زرع فإنها تقول لك :
إذا جئت فادخل البستان الذي وراء الزقاق .
وأما إشارتها لك بالقنديل فإنها تقول لك :
إذا جئت البستان فامش فيه وأي موضع وجدت القنديل مضيئاً فتوجه إليه واجلس تحته وانتظرني فإن هواك قاتلي .
فلما سمعت كلام ابنة عمي صحت من فرط الغرام وقلت :
كم تعديني وأتوجه إليها ولا أحصل مقصودي ولا أجد لتفسيرك معنى صحيحاً .
فعند ذلك ضحكت بنت عمي وقالت لي :
بقي عليك من الصبر أن تصبر بقية هذا اليوم إلى أن يولي النهار ويقبل الليل بالاعتكار فتحظى بالوصال وبلوغ الآمال وهذا الكلام صدق بغير يمين ، ثم أنشدت هذين البيتين :
درب الأيام تنـدرج ........ وبيوت الهم لا تلج
رب أمر عز مطلبه ........ قربته ساعة الفرج
ثم إنها أقبلت علي وصارت تسليني بلين الكلام ولم تجسر أن تأتيني بشيء من الطعام مخافة من غضبي عليها ورجاء ميلي إليها ولم يكن لها قصد إلا أنها أتت إلي وقلعتني ثم قالت :
يا ابن عمي اقعد معي حتى أحدثك بما يسليك إلى آخر النهار وإن شاء الله تعالى ما يأتي الليل إلا وأنت عند محبوبتك .
فلم ألتفت إليها وصرت أنتظر مجيء الليل وأقول :
يا رب عجل بمجيء الليل .
فلما أتى الليل بكت ابنة عمي بكاء شديداً وأعطتني حبة مسك خالص وقالت لي :
يا ابن عمي اجعل هذه الحبة في فمك فإذا اجتمعت بمحبوبتك وقضيت منها حاجتك وسمحت لك بما تمنيت فأنشدها هذا البيت :
ألا أيها العشاق بالـلـه خـبـروا ........ إذا اشتد عشق بالفتى كيف يصنع
ثم إنها قبلتني وحلفتني أني لا أنشدها ذلك البيت من الشعر إلا بعد خروجي من عندها .
فقلت لها :
سمعاً وطاعة .
ثم خرجت وقت العشاء ومشيت ولم أزل ماشياً حتى وصلت إلى البستان فوجدت بابه مفتوحاً فدخلته فرأيت نوراً على بعد فقصدته فلما وصلت إليه وجدت مقعداً عظيماً معقوداً عليه قبة من العاج والأبنوس والقنديل معلق في وسط تلك القبة وذلك المقعد مفروش بالبسط الحرير المزركشة بالذهب والفضة ، وهناك شمعة كبيرة موقودة في شمعدان من الذهب تحت القناديل وفي وسط المقعد فسقية فيها أنواع التصاوير وبجانب تلك الفسقية سفرة مغطاة بفوطة من الحرير وإلى جانبها باطية كبيرة من الصيني مملوءة خمراً وفيها قدح من بلور مزركش بالذهب وإلى جانب الجميع طبق كبير من فضة مغطى مكشفته فرأيت فيه من سائر الفواكه ما بين تين ورمان وعنب ونارنج وإترنج وكباد وبينها أنواع الرياحين من ورد وياسمين وآس ونسرين ونرجس ومن سائر المشمومات فهمت بذلك المكان وفرحت غاية الفرح وزال عني الهم والترح لكني في هذا الدار أحداً من خلق الله تعالى .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثانية والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
ولم أر عبداً ولا جارية ولا من يعاني هذه الأمور ، فجلست في ذلك المقعد أنتظر مجيء محبوبة قلبي إلى أن مضى أول ساعة من الليل وثاني ساعة وثالث ساعة فلم تأت واشتد بي الجوع لأن لي مدة من الزمان ما أكلت طعاماً لشدة وجدي ، فلما رأيت ذلك المكان وظهر لي صدق بنت عمي في فهم إشارة معشوقتي استرحت ووجدت ألم الجوع وقد شوقتني روائح الطعام الذي في السفرة لما وصلت إلى ذلك المكان .
واطمأنت نفسي بالوصال فاشتهت نفسي الأكل فتقدمت إلى السفرة وكشفت الغطاء فوجدت في وسطها طبقاً من الصيني وفيه أربع دجاجات محمرة ومتبلة بالبهارات وحول ذلك الطبق أربع زبادي واحدة حلوى والأخرى حب الرمان والثالثة بقلاوة والرابعة قطايف وتلك الزبادي ما بين حلو وحامض ، فأكلت من القطايف وأكلت قطعة لحم وعمدت إلى البقلاوة وأكلت منها ما تيسر ثم قصدت الحلوى وأكلت ملعقة أو اثنتين أو ثلاثة أو أربعاً وأكلت بعض دجاجة وأكلت لقمة فعند ذلك امتلأت معدتي وارتخت مفاصلي وقد كسلت عن السهر فوضعت رأسي على وسادة بعد أن غسلت يدي فغلبني النوم ولم أعلم بما جرى لي بعد ذلك فما استيقظت حتى أحرقني حر الشمس لأن لي أياماً ما ذقت مناماً ، فلما استيقظت وجدت على بطني ملحاً وفحماً فانتصبت واقفاً ونفضت ثيابي وقد التفت يميناً وشمالاً فلم أجد أحداً ووجدت أني كنت نائماً على الرخام من غير فرش فتحيرت في عقلي وحزنت حزناً عميقاً وجرت دموعي على خدي وتأسفت على نفسي فقمت وقصدت البيت فلما وصلت إليه وجدت ابنة عمي تدق بيدها على صدرها وتبكي بدمع يباري السحب الماطرات وتنشد هذه الأبيات :
هب ريح من الحـي ونـسـيم ........ فأثار الهوى ينشر هبـوبـه
يا نسيم الصبا هـلـم إلـينـا ........ كل صب بحظه ونصـيبـه
أو قدرنا من الغرام اعتنقـنـا ........ كاعتناق المحب صدر حبيبه
حرم الله بعد وجـه ابن عمـي ........ كل عيش من الزمان وطيبه
ليت شعري هل قلبه مـثل قلبي ........ ذائب من حر الهوى ولهيبـه
فلما رأتني قامت مسرعة ومسحت دموعها وأقبلت علي بلين كلامها وقالت :
يا ابن عمي أنت في عشقك قد لطف الله بك حيث أحبك من تحب وأنا في بكائي وحزني على فراقك من يلومني ، ولكن لا آخذك الله من جهتي .
ثم إنها تبسمت في وجهي تبسم الغيظ ولاطفتني وقلعتني ثيابي ونشرتها وشمتها وقالت :
والله ما هذه روائح من حظي بمحبوبه فأخبرني بما جرى لك يا ابن عمي .
فأخبرتها بجميع ما جرى لي فتبسمت تبسم الغيظ ثانياً وقالت :
إن قلبي ملآن موجع فلا عاش من يوجع قلبك ، وهذه المرأة تتعزز عليك تعززاً قوياً والله يا ابن عمي إني خائفة عليك منها ، واعلم يا ابن عمي أن تفسير الملح هو أنك مستغرق في النوم فكأنك دلع الطعم بحيث تعارفك النفوس فينبغي لك أن تتملح حتى لا تمجك الطباع ، لأنك تدعي أنك من العشاق الكرام والنوم على العشاق حرام فدعواك المحبة كاذبة وكذلك هي محبتها لك كاذبة لأنها لما رأتك نائماً لم تنبهك ، ولو كانت محبتها لك صادقة أنبهتك ، وأما الفحم فإن تفسير إشارته سود الله وجهك حيث ادعيت المحبة كذباً وإنما أنت صغير لم يكن لك همة إلا الأكل والشرب والنوم فهذا تفسير إشارتها فالله يخلصك منها .
فلما سمعت كلامها ضربت بيدي على صدري وقلت :
والله إن هذا هو الصحيح لأني نمت والعشاق لا ينامون فأنا الظالم لنفسي وما كان أضر علي من الأكل والنوم فكيف يكون الأمر .
ثم إني زدت في البكاء وقلت لابنة عمي :
دليني على شيء أفعله وارحميني يرحمك الله وإلا مت .
وكانت بنت عمي تحبني محبة شديدة .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثالثة والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
فقالت لي بنت عمي :
على رأسي وعيني ولكن يا ابن عمي قد قلت لك مراراً لو كنت أدخل وأخرج لكنت أجمع بينك وبينها في أقرب زمن وأغطيكما بذيلي ولا أفعل معك هذا إلا لقصد رضاك وإن شاء الله تعالى أبذل غاية الجهد في الجمع بينكما ولكن اسمع قولي وابلغ أمري واذهب إلى نفس ذلك المكان واقعد هناك فإذا كان وقت العشاء فاجلس في الموضع الذي كنت فيه ، واحذر أن تأكل شيئاً لأن الأكل يجلب النوم وإياك أن تنام فإنها لا تأتي لك حتى يمضي الليل ربعه كفاك الله شرها .
فلما سمعت كلامها فرحت وصرت أدعو الله أن يأتي الليل ، فلما أردت الانصراف قالت لي ابنة عمي :
إذا اجتمعت بها فاذكر لها البيت المتقدم وقت انصرافك .
فقلت لها :
على الرأس والعين .
فلما خرجت وذهبت إلى البستان وجدت المكان مهيأ على الحالة التي رأيتها أولاً وفيه ما يحتاج إليه من الطعام والشراب والنقل المشموم وغير ذلك فطلعت المقعد وشممت رائحة الطعام فاشتاقت نفسي إليه فمنعتها مراراً فلم أقدر على منعها فقمت وأتيت إلى السفرة وكشفت غطاءها فوجدت صحن دجاج وحوله أربع زبادي من الطعام فيها أربعة ألوان فأكلت من كل لون لقمة وأكلت ما تيسر من الحلوى وأكلت قطعة لحم وشربت من الزردة وأعجبتني فأكثر الشرب منها بالملعقة حتى شبعت وامتلأت بطني وبعد ذلك انطبقت أجفاني فأخذت وسادة ووضعتها تحت رأسي وقلت لعلي أتكئ عليها ولا أنام فأغمضت عيني ونمت وما إن انتبهت حتى طلعت الشمس فوجدت على بطني كعب عظم وفردة طاب بلح وبزرة خروب وليس في المكان شيء من فرش ولا غيره وكأنه لم يكن فيه شيء بالأمس فقمت ونفضت الجميع عني وخرجت وأنا مغتاظ إلى أن وصلت إلى البيت فوجدت ابنة عمي تصعد الزفرات وتنشد الأبيات :
جسدنا حل وقـلـب جـريح ........ ودموع على الخدود تـسـيح
وحبيب صعب التجني ولكـن ........ كل ما يفعل المليح مـلـيح
يا ابن عمي ملأت بالوجد قلبي ........ إن طرفي من الدموع قريح
فنهرت ابنة عمي وشتمتها فبكت ، ثم مسحت دموعها وأقبلت علي وقبلتني ، أخذت تضمني إلى صدرها وأنا أتباعد عنها وأعاتب نفسي ، فقالت لي :
يا ابن عمي كأنك نمت في هذه الليلة .
فقلت لها :
نعم ولكنني لما انتبهت وجدت كعب عظم على بطني وفردت طاب ونواة بلح وبزرة خروب وما أدري لأي شيء فعلت هكذا .
ثم بكيت وأقبلت عليها وقلت لها :
فسري لي إشارة فعلها هذا وقولي لي ماذا أفعل وساعديني على الذي أنا فيه .
فقالت لي :
على الرأس والعين أما فردة الطاب التي وضعتها على بطنك فإنها تشير لك إلى أنك حضرت وقلبك غائب وكأنها تقول لك :
ليس العشق هكذا فلا تعد نفسك من العاشقين .
وأما نواة البلح فإنها تشير لك بها إلى أنك لو كنت عاشقاً لكان قلبك محترقاً بالغرام ، ولم تذق لذيذ المنام فإن لذة الحب كتمرة ألهبت في الفؤاد جمرة .
وأما بزرة الخروب فإنها تشير لك به إلى أن قلب المحب مسلوب وتقول لك :
اصبر على فراقها صبر أيوب .
فلما سمعت هذا التفسير انطلقت في فؤادي النيران وزادت بقلبي الأحزان فصحت وقلت :
قدر الله علي النوم لقلة بختي .
ثم قلت لها :
يا ابنة عمي بحياتي عندك أن تدبري لي حيلة أتوصل بها إليها .
فبكت وقالت :
يا عزيزي ، يا ابن عمي إن قلبي ملآن بالفكر ، ولا أقدر أن أتكلم ولكن رح الليلة إلى ذلك المكان واحذر أن تنام فإنك تبلغ المرام هذا هو الرأي والسلام .
فقلت لها :
إن شاء الله لا أنام وإنما أفعل ما تأمريني به .
فقامت بنت عمي وأتت بالطعام وقالت لي :
كل الآن ما يكفيك حتى لا يبقى في خاطرك شيء .
فأكلت كفايتي ولما أتى الليل قامت بنت عمي وأتتني ببدلة عظيمة ألبستني إياها وحلفتني أن أذكر لها البيت المذكور وحذرتني من النوم .
ثم خرجت من عند بيت عمي وتوجهت إلى البستان وطلعت إلى البستان وطلعت ذلك المقعد ونظرت إلى البستان وجعلت أفتح عيني بأصابعي وأهز رأسي ، حين جن الليل .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الرابعة والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
وطلعت من ذلك المقعد ونظرت إلى البستان وجعلت أفتح عيني وأهز رأسي حين جن الليل فلما طلعت رجعت من السهر وهبت علي روائح الطعام فازداد جوعي وتوجهت إلى السفرة وكشفت عظاءها ، وأكلت من كل لون لقمة ، وأكلت قطعة لحم ، وأتيت إلى باطية الخمر وقلت في نفسي :
أشرب قدحاً .
فشربته ، ثم شربت الثاني والثالث إلى غاية عشرة وقد ضربني الهواء ، فوقعت على الأرض كالقتيل ومازلت كذلك حتى طلع النهار فانتبهت فرأيت نفسي خارج البستان ، وعلى بطني شفرة ماضية ودرهم حديد ، فارتجفت وأخذتهما وأتيت بهما إلى البيت فوجدت ابنة عمي تقول :
أني في هذا البيت مسكينة حزينة ليس لي معين إلا البكاء .
فلما دخلت وقعت من طولي ورميت السكين والدرهم من يدي وغشي علي فلما أفقت عرفتها بما حصل لي وقلت لها :
إني لم أنل أربي .
فاشتد حزنها علي لما رأت بكائي ووجدي ، وقالت لي :
إني عجزت عن النوم ، فلم تسمع نصحي فكلامي لا يفيدك شيئاً .
فقلت لها :
أسألك بالله أن تفسري لي إشارة السكين والدرهم الحديد .
فقالت :
إن الدرهم الحديد فإنها تشير بها إلى عينها اليمنى وأنها تقسم بها وتقول :
وحق رب العالمين وعين اليمين إن رجعت ثاني مرة ونمت لأذبحنك بهذه السكين وأنا خائفة عليك يا ابن عمي من مكرها وقلبي ملآن بالحزن عليك فما اقدر أن أتكلم فإن كنت تعرف من أنك إن رجعت إليها لا تنام فارجع إليها واحذر النوم فإنك تفوز بحاجتك وإن عرفت أنك إن رجعت إليها تنام على عادتك ثم رجعت إليها ونمت ذبحتك .
فقلت لها :
وكيف يكون العمل يا بنت عمي أسألك بالله أن تساعديني على هذه البلية .
فقالت :
على عيني ورأسي ولكن إن سمعت كلامي وأطعت أمري قضيت حاجتك .
فقلت لها :
إني أسمع كلامك ، وأطيع أمرك .
فقالت :
إذا كان وقت الرواح أقول لك .
ثم ضمتني إلى صدرها ووضعتني على الفراش ، ولا زالت تكسبني حتى غلبني النعاس واستغرقت في النوم فأخذت مروحة وجلست عند رأسي تروح على وجهي إلى آخر النهار ثم نبهتني فلما انتبهت وجدتها عند رأسي وفي يدها المروحة وهي تبكي ودموعها قد بلت ثيابها .
فلما رأتني استيقظت مسحت دموعها وجاءت بشيء من الأكل فامتنعت منه فقالت لي :
أما قلت لك اسمع مني وكل .
فأكلت ولم أخالفها صارت تضع الأكل في فمي وأنا أمضغ حتى امتلأت ثم أسقتني نقيع عناب السكر ، ثم غسلت يدي ونشفتها بمحرمة ، ورشت علي ماء الورد وجلست معها وأنا في عافية .
فلما أظلم الليل وألبستني ثيابي وقالت :
يا ابن عمي إسهر جميع الليل ولا تنم فإنها ما تأتيك في هذه الليلة إلا في آخر الليل ، وإن شاء الله تجتمع بها في هذه الليلة ولكن لا تنس وصيتي .
ثم بكت فأوجعتني قلبي عليها من كثرة بكائها ، وقلت لها :
ما الوصية التي وعدتني بها ?
فقالت لي :
إذا انصرفت من عندها فأنشدها البيت المقدم ذكره .
ثم خرجت من عندها وأنا فرحان ومضيت إلى البستان وطلعت المقعد وأنا شبعان فجلست وسهرت إلى ربع الليل ثم طال الليل علي حتى كأنه سنة فمكثت ساهراً ، حتى مضى ثلاثة أرباع الليلة وصاحت الديوك فاشتد عندي الجوع من السهر فقمت إلى السفرة وأكلت حتى اكتفيت فثقلت رأسي وأردت أن أنام وإذا بضجة على بعد فنهضت وغسلت يدي وفمي ، ونبهت نفسي فما كان إلا قليل وإذا بها أتت ومعها عشر جوار ، وهي بينهن كأنها البدر بين الكواكب وعليها حلة من الأطلس الأخضر مزركشة بالذهب الأحمر وهي كما قال الشاعر :
تتيه على العشاق في حلل خضـر ........ مفككة الأزرار محلولة الشعـر
فقلت لها ما الاسم قالت أنا التـي ........ كويت قلوب العاشقين على الجمر
شكوت لها ما أقاسي من الهـوى ........ فقالت إلى صخر شكوت ولم تدر
فقلت لها إن كان قلبك صـخـرة ........ فقد أنبع الله الزلال من الصخـر
فلما رأتني ضحكت وقالت :
كيف انتبهت ولم يغلب عليك النوم وحيث سهرت الليل علمت أنك عاشق ، لأن من شيم العشاق سهر الليل في مكابدة الأشواق .
ثم أقبلت علي الجواري وغمزتهن فانصرفن عنها وأقبلت علي وضمتني إلى صدرها وقبلتني وقبلتها ومصت شفتي التحتانية ومصصت شفتها الفوقانية ، ثم مددت يدي إلى خصرها وغمرته ، وما نزلنا في الأرض إلا سواء وحلت سراويلها فنزلت في خلال رجليها وأخذنا في الهراس والتعنيق والغنج والكلام الرقيق والعض وحمل السيقان إلى أن ارتخت مفاصلها وغشي عليها ودخلت في الغيبوبة وكانت تلك الليلة ، مسرة القلب وقرة الناظر كما قال فيها الشاعر :
أهنى ليالي الدهر عندي لـيلة ........ لم أخل فيها الكأس من أعمال
فرقت فيها بين جفني والكرى ........ وجمعت بين القرط والخلخال
فلما أصبح الصباح أردت الانصراف وإذا بها أمسكتني وقالت لي :
قف حتى أخبرك بشيء .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الخامسة والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك قالت :
عندما أردت أن انصرف أمسكتني وقالت لي :
قف حتى أخبرك بشيء وأوصيك وصية .
فوقفت فحلت منديلاً وأخرجت هذه الخرقة ونشرتها قدامي فوجدت فيها صورة غزال على هذا المثال فتعجبت منها غاية العجب فأخذته من عندها وتواعدت وإياها أن أسعى إليها في كل ليلة في ذلك البستان ثم انصرفت من عندها وأنا فرحان ومن فرحي نسيت الشعر الذي أوصتني به بنت عمي وحين أعطتني الخرقة التي فيها صورة الغزال قالت لي :
هذا عمل أختي .
فقلت لها :
وما اسم أختك ?
قالت :
اسمها نور الهدى .
فاحتفظ بهذه الخرقة ثم ودعتها وانصرفت وأنا فرحان ومشيت إلى أن دخلت على ابنة عمي فوجدتها راقدة فلما رأتني قامت ودموعها تتساقط .
ثم أقبلت علي وقبلت صدري وقالت :
هل فعلت ما أوصيتك به من إنشاد بيت الشعر ?
فقلت لها :
إني نسيته وما شغلني عنه إلا صورة هذا الغزال ورميت الخرقة قدامها فقامت وقعدت ولم تطق الصبر وأفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:
يا طالباً للفراق مهـلاً ........ فلا يغرنك العـنـاق
مهلاً فطبع الـزمـان غدر ........ وآخر الصحبة الفراق
فلما فرغت من شعرها قالت :
يا ابن عمي هب لي هذه الخرقة .
فوهبتها لها فأخذتها ونشرتها ورأت ما فيها ، فلما جاء وقت ذهابي قالت ابنة عمي :
اذهب مصحوباً بالسلامة ولكن إذا انصرفت من عندها فأنشد بيت الشعر الذي أخبرتك به أولاً ونسيته .
فقلت لها :
أعيديه لي .
فأعادته ثم مضيت إلى البستان ودخلت المقعد فوجدت الصبية في انتظاري فلما رأتني قامت وقبلتني وأجلستني في حجرها ثم أكلنا وشربنا وقضينا أغراضنا كما تقدم ولا حاجة إلى الإعادة فلما أصبح الصباح أنشدتها بيت الشعر وهو :
ألا أيها العشاق باللـه خـبـروا ........ إذا اشتد عشق الفتى كيف يصنع
فلما سمعته هملت عيناها بالدموع وأنشدت :
يداري هواه ثـم يكـتـم سـره ........ ويصبر في كل الأمور ويخضع
فحفظته وفرحت بقضاء حاجة ابنة عمي فوجدتها راقدة ، وأمي عند رأسها تبكي على حالها فلما دخلت عليها قالت لي أمي :
تباً لك من ابن عم كيف تترك بنت عمك على استواء ولا تسأل عن مرضها ?
فلما رأتني ابنة عمي ، رفعت رأسها وقعدت وقالت لي :
يا عزيز هل أنشدتها البيت الذي أخبرتك به ?
فقلت :
نعم فلما سمعته بكت وأنشدتني بيتاً آخر ، وحفظته .
فقالت بنت عمي :
أسمعني إياه .
فأسمعتها إياه فبكت بكاءً شديداً وأنشدت هذا البيت :
لقد حاول الصبر الجميل ولم يجد ........ له غير قلب في الصبابة يجزع
ثم قالت ابنة عمي :
إذا ذهبت إليها على عادتك فأنشدها هذا البيت الذي سمعته .
فقلت لها :
سمعاً وطاعة .
ثم ذهبت إليها في البستان على العادة ، وكان بيننا ما كان ما يقصر عن وصفه اللسان فلما أردت الانصراف أنشدتها ذلك البيت وهو له إلى آخره فلما سمعته سالت مدامعها في المحاجر ، وأنشدت قول الشاعر :
فإن لم يجد صبراً لكتمـان سـره ........ فليس له عندي سوى الموت أنفع
فحفظته وتوجهت إلى البيت فلما دخلت على ابنة عمي وجدتها ملقاة مغشياً عليها وأمي جالسة عند رأسها ، فلما سمعت كلامي فتحت عينيها وقالت :
يا عزيز هل أنشدتها بيت الشعر ?
قلت لها :
نعم ولما سمعته بكت وأنشدتني هذا البيت فإن لم يجد إلى آخره .
فلما سمعته بنت عمي غشي عليها ثانياً فلما أفاقت أنشدت هذا البيت :
سمعنا أطعنا ثم متنـا فـبلـغوا ........ سلامي على كل من كان للوصل يمنع
ثم لما أقبل الليل مضيت إلى البستان على جري عادتي فوجدت الصبية في انتظاري فجلسنا وأكلنا وشربنا وعملنا حظنا ثم نمنا إلى الصباح ، فلما أردت الانصراف أنشدتها ما قالته ابنة عمي فلما سمعت ذلك صرخت صرخة عظيمة تضجرت وقالت :
والله إن قائلة هذا الشعر قد ماتت .
ثم بكت وقالت :
ويلك ما تقرب لك قائلة هذا الشعر ?
قلت لها :
إنها ابنة عمي .
قالت :
كذبت والله لو كانت ابنة عمك لكان عندك لها من المحبة مثل ما عندها لك فأنت الذي قتلتها قتلك الله كما قتلتها ، والله لو أخبرتني أن لك ابنة عم ما قربتك مني .
فقلت لها :
ابنة عمي كانت تفسر لي الإشارات التي كنت تشيرين بها إلي وهي التي علمتني ما أفعل معك وما وصلت إليك إلا بحسن تدبيرها .
فقالت :
وهل عرفت بنا ?
قلت :
نعم .
قالت :
حسرك الله على شبابك كما حسرتها على شبابها .
ثم قالت لي :
رح انظرها .
فذهبت وخاطري متشوش ، وما زلت ماشياً حتى وصلت إلى زقاقنا فسمعت عياطاً فسألت عنه فقيل :
إن عزيزة وجدناها خلف الباب ميتة .
ثم دخلت الدار فلما رأتني أمي قالت :
إن خطيئتها في عنقك لا سامحك الله من دمها .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة السادسة والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
ثم دخلت الدار فلما رأتي أمي قالت :
إن خطيئتها في عنقك لا سامحك الله من دمها .
ثم إن أبي جاء وجهزناها وشيعنا جنازتها ودفناها وعملنا على قبرها الختمات ومكثنا على القبر ثلاثة أيام ثم رجعت إلى البيت وأنا حزين عليها فأقبلت علي أمي وقالت لي :
إن قصدي أن أعرف ما كنت تفعله معها حتى فقعت مرارتها ، وإني يا ولدي كنت أسألها في كل الأوقات عن سبب مرضها فلم تخبرني به ولم تطلعني عليه فبالله عليك أن تخبرني بالذي كنت تصنعه معها حتى ماتت .
فقلت :
ما عملت شيئاً .
فقالت :
الله يقتص لها منك فإنها ما ذكرت شيئاً بل كتمت أمرها حتى ماتت وهي راضية ولما ماتت كنت عندها ففتحت عينيها وقالت لي :
يا امرأة عمي جعل الله ولدك في حل من دمي ولا آخذه بما فعل معي وإنما نقلني إلى الله من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية .
فقلت لها :
يا ابنتي سلامتك وسلامة شبابك .
وصرت أسألها عن سبب مرضها فما تكلمت ثم تبسمت وقالت :
يا امرأة عمي إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقول له يقول هاتين الكلمتين عند انصرافه منه :
الوفاء مليح والغدر قبيح .
وهذه سفقة مني عليه لأكون شفيقة عليه في حياتي وبعد مماتي .
ثم أعطتني لك حاجة وحلفتني أني لا أعطيها لك حتى أراك تبكي عليها وتنوح الحاجة عندي فإذا رأيتك على الصفة التي ذكرتها أعطيتك إياها .
فقلت لها :
أريني إياها .
فما رضيت ثم إني اشتغلت بلذاتي ولم أتذكر موت ابنة عمي لأني كنت طائش العقل وكنت أود في نفسي أن أكون طول ليلي ونهاري عند محبوبتي وما صدقت أن الليل أقبل حتى مضيت إلى البستان فوجدت الصبية جالسة على مقالي النار من كثرة الانتظار فما صدقت أنها رأتني فبادرت إلي وتعلقت برقبتي وسألتني عن بنت عمي فقلت لها :
إنها ماتت وعملنا لها الذكر والختمات ومضى لها أربع ليالي وهذه الخامسة .
فلما سمعت ذلك صاحت وبكت وقالت :
أما قلت لك إنك قتلتها ولو أعلمتني بها قبل موتها لكنت كافأتها على ما فعلت معي من المعروف فإنها خدمتني وأوصلتك إلي ولولاها ما اجتمعت بك وأنا خائفة عليك أن تقع في مصيبة بسبب رزيتها .
فقلت لها :
إنها قد جعلتني في حل قبل موتها .
ثم ذكرت لها ما أخبرتني به أمي فقالت :
بالله عليك إذا ذهبت إلى أمك فاعرف الحاجة التي عندها .
فقلت لها :
إن أمي قالت لي :
إن ابنة عمك قبل أن تموت أوصتني وقالت لي :
إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقولي له هاتين الكلمتين :
الوفاء مليح والغدر قبيح .
فلما سمعت الصبية ذلك قالت :
رحمة الله عليها فإنها خلصتك مني وقد كنت أضمرت على ضررك فأنا لا أضرك ولا أشوش عليك .
فتعجبت من ذلك وقلت لها :
وما كنت تريدين قبل أن تفعليه معي وقد صار بيني وبينك مودة ?
فقالت لي :
أنت مولع بي ولكنك صغير السن وقلبك خال من الخداع فأنت لا تعرف مكرنا ولا خداعنا ، ولو كانت في قيد الحياة لكانت معينة لك فإنها سبب سلامتك حتى أنجتك من الهلكة ، والآن أوصيك أن لا تتكلم مع واحدة ولا تخاطب واحدة من أمثالنا لا صغيرة ولا كبيرة ، فإياك ثم إياك ذلك لأنك غير عارف بخداع النساء ولا مكرهن والتي تفسر لك الإشارات قد ماتت وإني أخاف عليك أن تقع في رزية فلا تجد من يخلصك منها بعد موت بنت عمك .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة السادسة والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
ثم دخلت الدار فلما رأتي أمي قالت :
إن خطيئتها في عنقك لا سامحك الله من دمها .
ثم إن أبي جاء وجهزناها وشيعنا جنازتها ودفناها وعملنا على قبرها الختمات ومكثنا على القبر ثلاثة أيام ثم رجعت إلى البيت وأنا حزين عليها فأقبلت علي أمي وقالت لي :
إن قصدي أن أعرف ما كنت تفعله معها حتى فقعت مرارتها ، وإني يا ولدي كنت أسألها في كل الأوقات عن سبب مرضها فلم تخبرني به ولم تطلعني عليه فبالله عليك أن تخبرني بالذي كنت تصنعه معها حتى ماتت .
فقلت :
ما عملت شيئاً .
فقالت :
الله يقتص لها منك فإنها ما ذكرت شيئاً بل كتمت أمرها حتى ماتت وهي راضية ولما ماتت كنت عندها ففتحت عينيها وقالت لي :
يا امرأة عمي جعل الله ولدك في حل من دمي ولا آخذه بما فعل معي وإنما نقلني إلى الله من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية .
فقلت لها :
يا ابنتي سلامتك وسلامة شبابك .
وصرت أسألها عن سبب مرضها فما تكلمت ثم تبسمت وقالت :
يا امرأة عمي إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقول له يقول هاتين الكلمتين عند انصرافه منه :
الوفاء مليح والغدر قبيح .
وهذه سفقة مني عليه لأكون شفيقة عليه في حياتي وبعد مماتي .
ثم أعطتني لك حاجة وحلفتني أني لا أعطيها لك حتى أراك تبكي عليها وتنوح الحاجة عندي فإذا رأيتك على الصفة التي ذكرتها أعطيتك إياها .
فقلت لها :
أريني إياها .
فما رضيت ثم إني اشتغلت بلذاتي ولم أتذكر موت ابنة عمي لأني كنت طائش العقل وكنت أود في نفسي أن أكون طول ليلي ونهاري عند محبوبتي وما صدقت أن الليل أقبل حتى مضيت إلى البستان فوجدت الصبية جالسة على مقالي النار من كثرة الانتظار فما صدقت أنها رأتني فبادرت إلي وتعلقت برقبتي وسألتني عن بنت عمي فقلت لها :
إنها ماتت وعملنا لها الذكر والختمات ومضى لها أربع ليالي وهذه الخامسة .
فلما سمعت ذلك صاحت وبكت وقالت :
أما قلت لك إنك قتلتها ولو أعلمتني بها قبل موتها لكنت كافأتها على ما فعلت معي من المعروف فإنها خدمتني وأوصلتك إلي ولولاها ما اجتمعت بك وأنا خائفة عليك أن تقع في مصيبة بسبب رزيتها .
فقلت لها :
إنها قد جعلتني في حل قبل موتها .
ثم ذكرت لها ما أخبرتني به أمي فقالت :
بالله عليك إذا ذهبت إلى أمك فاعرف الحاجة التي عندها .
فقلت لها :
إن أمي قالت لي :
إن ابنة عمك قبل أن تموت أوصتني وقالت لي :
إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقولي له هاتين الكلمتين :
الوفاء مليح والغدر قبيح .
فلما سمعت الصبية ذلك قالت :
رحمة الله عليها فإنها خلصتك مني وقد كنت أضمرت على ضررك فأنا لا أضرك ولا أشوش عليك .
فتعجبت من ذلك وقلت لها :
وما كنت تريدين قبل أن تفعليه معي وقد صار بيني وبينك مودة ?
فقالت لي :
أنت مولع بي ولكنك صغير السن وقلبك خال من الخداع فأنت لا تعرف مكرنا ولا خداعنا ، ولو كانت في قيد الحياة لكانت معينة لك فإنها سبب سلامتك حتى أنجتك من الهلكة ، والآن أوصيك أن لا تتكلم مع واحدة ولا تخاطب واحدة من أمثالنا لا صغيرة ولا كبيرة ، فإياك ثم إياك ذلك لأنك غير عارف بخداع النساء ولا مكرهن والتي تفسر لك الإشارات قد ماتت وإني أخاف عليك أن تقع في رزية فلا تجد من يخلصك منها بعد موت بنت عمك .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة السابعة والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
ثم إن الصبية قالت :
فواحسرتاه على بنت عمك وليتني علمت بها قبل موتها حتى أكافئها على ما فعلت معي من المعروف رحمة الله تعالى عليها فإنها كتمت سرها ولم تبح بما عندها ولولاها ما كنت تصل إلي أبداً وإني أشتهي عليك أمراً .
فقلت :
ما هو ?
قالت :
إن توصلني إلى قبرها حتى أزورها في القبر الذي هي فيه وأكتب عليه أبياتاً .
فقلت لها :
في غد إن شاء الله تعالى .
ثم إني نمت معها تلك الليلة وهي بعد كل ساعة تقول لي :
ليتك أخبرتني بابنة عمك قبل موتها .
فقلت لها :
ما معنى هاتين الكلمتين اللتين قالتهما وهما الوفاء مليح والغدر قبيح ?
فلم تجبني .
فلما أصبح الصباح قامت وأخذت كيساً فيه دنانير وقالت لي :
قم وأرني قبرها حتى أزوره وأكتب عليه أبياتاً وأعمل عليه قبة وأترحم عليها وأصرف هذه الدنانير صدقة على روحها .
فقلت لها :
سمعاً وطاعة .
ثم مشيت قدامها ومشت خلفي وصارت تتصدق وهي ماشية في الطريق وكلما تصدقت صدقة تقول :
هذه الصدقة على روح عزيزة التي كتمت سرها حتى شربت كأس مناياها ولم تبح بسر هواها .
ولم تزل تتصدق من الكيس وتقول :
على روح عزيزة .
حتى وصلنا القبر ونفذ ما في الكيس ، فلما عاينت القبر رمت روحها عليه وبكت بكاء شديداً ، ثم إنها أخرجت بكاراً من الفولاذ ومطرقة لطيفة وخطب بالبيكار على الحجر الذي على رأس القبر خطاً لطيفاً ورسمت هذه الأبيات :
مرت بقبر دارس وسـط روضة ........ عليه من النعمان سبع شـقـائق
فقلت لمن ذا القبر جاوبني الثرى ........ تأدب فهذا القبر برزخ عـاشـق
فقلت رعاك الله يا ميت الـهـوى ........ وأسكنك الفردوس أعلى الشواهق
مساكين أهل العشق حتى قبورهم ........ عليها تراب الذل بين الـخـلائق
فإن أستطع زرعاً زرعتك روضة ........ وأسقيتها من دمعي المتـدافـق
ثم بكت بكاء شديداً وقامت وقمت معها وتوجهنا إلى البستان فقالت لي :
سألتك بالله أن لا تنقطع عني أبداً .
فقلت :
سمعاً وطاعة .
ثم إني صرت أتردد عليها وكلما بت عندها تحسن إلي وتكرمني وتسألني عن الكلمتين اللتين قالتهما ابنة عمي ومكثت مستغرقاً في تلك اللذات سنة كاملة ، وعند رأس السنة دخلت الحمام وأصلحت شأني ولبست بدلة فاخرة من الحمام وشربت قدحاً من الشراب وشممت روائح قماشي المضمغ بأنواع الطيب وأنا خالي القلب من غدرات الزمان وطواق الحدثان فلما جاء وقت العشاء اشتاقت نفسي إلى الذهاب إليها وأنا سكران لا أدري أين أتوجه ، فذهبت إليها فمال بي السكر إلى زقاق يقال له :
زقاق النقيب فبينما أنا ماش في ذلك لزقاق وإذا بعجوز ماشية وفي إحدى يديها شمعة مضيئة وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثامنة والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب الذي اسمه عزيز قال لتاج الملوك :
فلما دخلت الزقاق الذي يقال له زقاق النقيب فمشيت فيه فبينما أنا ماش في ذلك الزقاق وإذا بعجوز ماشية وفي إحدى يديها شمعة مضيئة وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف فتقدمت إليها وهي باكية العين وتنشد هذين البيتين :
له در مباشـري لقدومكـم ........ فلقد أتى بلطائف المسموع
لو كان يقنع بالخليع وهبته ........ قلباً تمزق ساعة التـوديع
فلما رأتني قالت لي :
يا ولدي هل تعرف أن تقرأ ?
فقلت لها :
نعم يا خالتي العجوز .
فقالت لي :
خذ هذا الكتاب واقرأه .
وناولتني إياه فأخذته منها وفتحته وقرأت مضمونه إنه كتاب من عند الغياب بالسلام على الأحباب فلما سمعته فرحت واستبشرت ودعت لي وقالت :
فرج الله همك كما فرجت همي .
ثم أخذت الكتاب ومشت خطوتين وغلبني حصر البول فقعدت في مكان لأريق الماء ثم إني قمت وتجمرت وأرخيت أثوابي واردت أن أمشي وإذا بالعجوز قد أقبلت علي وقبلت يدي وقالت :
يا مولاي الله تعالى يهنيك بشبابك ولا يفضحك أترجاك أن تمشي معي خطوات إلى ذلك الباب فإني أخبرتهم بما أسمعتني إياه من قراءة الكتاب فلم يصدقون فامش معي خطوتين واقرأ لهم الكتاب من خلف الباب واقبل دعائي لك .
فقلت لها :
وما قصة هذا الكتاب ?
فقالت لي :
يا ولدي هذا الكتاب جاء من عند ولدي وهو غائب عني مدة عشرة سنين فإنه سافر بمتجر ومكث في الغربة تلك المدة فقطعنا الرجاء منه وظننا أنه مات ثم وصل إلينا منه هذا الكتاب وله أخت تبكي عليه في مدة غيابه آناء الليل وأطراف النهار .
فقلت لها :
إنه طيب بخير فلم تصدقني .
وقالت لي :
لابد أن تأتيني بمن يقرأ هذا الكتاب فيخبرني حتى يطمئن قلبي ويطيب خاطري وأنت تعلم يا ولدي أن المحب مولع بسوء الظن فأنعم علي بقراءة هذا الكتاب وأنت واقف خلف الستارة وأخته تسمع من داخل الباب لأجل أن يحصل لك ثواب من قضى لمسلم حاجة نفس عنه كربة ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من نفس عن مكروب كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه اثنتين وسبعين كربة من كرب يوم القيامة وأنا قصدتك فلا تخيبني .
فقلت لها :
سمعاً وطاعة .
وتقدمت فمشت قدامي ومشيت خلفها قليلاً حتى وصلت إلى باب دار عظيمة وذلك الباب مصفح بالنحاس الأحمر فوقفت خلف الباب وصاحت العجوز بالعجمية فما أشعر إلا وصبية قد أقبلت بخفة ونشاط فلما رأتني قالت بلسان فصيح عذب :
ما سمعت أحلى منه يا أمي أهذا الذي جاء يقرأ الكتاب ?
فقالت لها :
نعم .
فمدت يدها إلي بالكتاب وكان بينها وبين الباب نحو نصف قصبة فمددت يدي لأتناول الكتاب وأدخلت رأسي وأكتافي من الباب لأقترب فما أدري إلا والعجوز قد وضعت رأسها في ظهري ويدي ماسكة الباب فالتفت فرأيت نفسي في وسط الدار من داخل الدهليز ودخلت العجوز أسرع من البرق الخاطف ولم يكن لها شغل إلا قفل الباب .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة التاسعة والأربعين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
إن الصبية لما رأتني من داخل الباب بالدهليز أقبلت علي وضمتني إلى صدرها ثم قالت لي :
يا عزيزي أي الحالتين أحب إليك : الموت أم الحياة ?
فقلت لها :
الحياة .
فقالت :
إذا كانت الحياة أحب إليك فتزوج بي .
فقلت :
أنا أكره أن أتزوج بمثلك .
فقالت لي :
إن تزوجت بي تسلم من بنت الدليلة المحتالة .
فقلت لها :
ومن الدليلة المحتالة ?
فضحكت وقالت :
كيف لا تعرفها وأنت لك في صحبتها اليوم سنة وأربعة شهور أهلكها الله تعالى ، والله ما يوجد أمكر منها ، وكم شخصاً قتلت قبلك وكم عملة وكيف سلمت منها ولم تقتلك أو تشوش عليك ولك في صحبتها هذه المدة ?
فلما سمعت كلامها تعجبت غاية العجب ، فقلت لها :
يا سيدتي ومن عرفك بها ?
فقالت :
أنا أعرفها مثل ما يعرف الزمان مصائبه لكن قصدي أن تحكي لي جميع ما وقع لك منها حتى أعرف ما سبب سلامتك منها .
فحكيت لها جميع ما جرى لي معها ومع ابنة عمي عزيزة وقالت :
عوضك الله فيها خيراً يا عزيز فإنها هي سبب سلامتك من بنت الدليلة المحتالة ، ولولاها لكنت هلكت وأنا خائفة عليك من مكرها وشرها ولكن ما أقدر أن أتكلم .
فقلت لها :
والله إن ذلك كله قد حصل .
فهزت رأسها وقالت :
لا يوجد اليوم مثل عزيزة .
فقلت :
وعند موتها أوصتني أن أقول هاتين الكلمتين لا غير وهما :
الوفاء مليح والغدر قبيح .
فلما سمعت ذلك مني ، قالت :
يا عزيز والله إن هاتين الكلمتين هما اللتان خلصتاك منها وبسببهما ما قتلتك فقد خلصتك بنت عمك حية وميتة والله إني كنت أتمنى الاجتماع بك ولو يوماً واحداً فلم أقدر على ذلك إلا في هذا الوقت حتى تحيلت عليك بهذه الحيلة وقد تمت وأنت الآن صغير لا تعرف مكر النساء ولا دواهي العجائز .
فقلت :
لا والله .
فقالت لي :
طب نفساً وقر عيناً فإن الميت مرحوم والحي ملطوف وأنت شاب مليح وأنا ما أريدك إلا بسنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومهما أردت من مال وقماش يحضر لك سريعاً ولا أكلفك بشيء أبداً وأيضاً عندي دائماً الخبز مخبوز والماء في الكوز وما أريد منك إلا أن تعمل معي كما يعمل الديك .
فقلت لها :
وما الذي يعمله الديك ?
فضحكت وصفقت بيدها ووقعت على قفاها من شدة الضحك ، ثم إنها قعدت وقالت لي :
أما تعرف صنعة الديك ?
فقلت لها :
والله ما أعرف صنعة الديك .
قالت :
صنعة الديك أن تأكل وتشرب وتنكح .
فخجلت أنا من كلامها ثم إني قلت :
هذه صنعة الديك ?
قالت :
نعم وما أريدك إلا أن تشد وسطك وتقوي عزمك وتنكح .
ثم إنها صفقت بيدها وقالت :
يا أمي أحضري من عندك .
وإذا بالعجوز قد أقبلت بأربعة شهود عدول ثم إنها أوقدت أربع شمعات فلما دخل الشهود سلموا علي وجلسوا فقامت الصبية وأرخت عليها إزاراً ووكلت بعضهم في ولاية عقدها وقد كتبوا الكتاب وأشهدت على نفسها أنها قبضت جميع المهر مقدماً ومؤخراً وأن في ذمتها إلي عشرة آلاف درهم .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك :
ثم إنها أعطت الشهود أجرتهم وانصرفوا من حيث أتوا فعند ذلك قامت الصبية وقلعت أثوابها وأتت في قميص رفيق مطرز بطراز من الذهب وقلعت سروالها وأخذت بيدي وطلعت بي فوق السرير وقالت لي :
ما الحلال من عيب .
ووقعت على السرير وانسطحت على ظهرها ورمتني على بطنها ثم شهقت شهقة وأتبعت الشهقة بغنجة ثم كشفت الثوب حتى جعلته فوق نهديها فلما رأيتها على تلك الحالة لم أتمالك نفسي دون أن أنكحها بعد أن مصصت شفتها وهي تتأوه وتظهر الخشوع والخضوع والبكاء والدموع .
ثم قالت :
يا حبيبي أعمل خلاصك فأنا جاريتك .
ولم تزل تسمعني الغنج والشهيق في خلال البوس والتعنيق ، حتى صار صياحنا في الطريق وحظينا بالسعادة والتوفيق ثم نمنا إلى الصباح وأردت أن أخرج وإذا هي أقبلت علي ضاحكة وقالت :
هل تحسب أن دخول الحمام مثل خروجه وما أظن إلا أنك تحسبني مثل بنت الدليلة المحتالة إياك وهذا الظن فما أنت إلا زوجي بالكتاب والسنة وإن كنت سكران فأفق لعقلك إن هذه الدار التي أنت فيها لا تفتح إلا في كل سنة يوم قم إلى الباب الكبير وانظره .
فقمت إلى الباب الكبير فوجدته مغلقاً مسمراً ، فقالت :
يا عزيز إن عندنا من الدقيق والحبوب والفواكه والرمان والسكر واللحم والغنم والدجاج وغير ذلك ما يكفينا أعواماً عديدة ولا يفتح بابنا من هذه الليلة إلا بعد سنة .
فقلت :
لا حول ولا قوة إلا بالله .
فقالت :
وأي شيء يضرك وأنت تعرف صنعة الديك التي أخبرتك بها ?
ثم ضحكت فضحكت أنا وطاوعتها فيما قالت ومكثت عندها وأنا أعمل صنعة الديك آكل واشرب وأنكح حتى مر علينا عام ، إثني عشر شهراً .
فلما كملت السنة حملت مني ورزقت منها ولداً وعند رأس السنة سمعت فتح الباب ، وإذا بالرجال دخلوا بكعك ودقيق وسكر فأردت أن أخرج فقالت :
اصبر إلى وقت العشاء ومثلما دخلت فأخرج .
فصبرت إلى وقت العشاء وأردت أن أخرج وأنا خائف مرجوف وإذا هي قالت :
والله ما أدعك تخرج حتى أحلفك أنك تعود في هذه الليلة ، قبل أن يغلق الباب .
فأجبتها إلى ذلك وحلفتني بالإيمان الوثيقة على السيف والمصحف والطلاق أني أعود إليها ثم خرجت من عندها ومضيت إلى البستان فوجدته مفتوحاً كعادته فاغتظت وقلت في نفسي :
إني غائب عن هذا المكان سنة كاملة وجئت على غفلة فوجدته مفتوحاً يا ترى هل الصبية باقية على حالها أولا فلا بد أن أدخل وأنظر قبل أن أروح إلى أمي وأنا في وقت العشاء .
ثم دخلت البستان .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الحادية والخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن عزيز قال لتاج الملوك :
ثم دخلت البستان ومشيت حتى أتيت المقعد فوجدت بنت دليلة المحتالة جالسة ورأسها على ركبتها ويدها على خدها وقد تغير لونها وغارت عيناها فلما رأتني قالت :
الحمد لله على السلامة وهمت أن تقوم فوقعت من فرحتها .
فاستحييت منها ، وطأطأت رأسي .
ثم تقدمت إليها وقبلتها وقلت لها :
كيف عرفت أني أجيء إليك في هذه الساعة ?
قالت :
لا علم لي بذلك والله إن لي سنة لم أذق فيها نوماً بل أسهر كل ليلة في انتظار ، وأنا على هذه الحالة من يوم خرجت من عندي وأعطيتك البدلة القماش الجديدة ووعدتني أنك تجيء إلي وقد انتظرتك فما أتيت لا أول ليلة ولا ثاني ليلة ولا ثالث ليلة فاستمريت منتظرة لمجيئك والعاشق هكذا يكون وأريد أن تحكي لي ما سبب غيابك عني هذه السنة ?
فحكيت لها .
فلما علمت أني تزوجت اصفر لونها ثم قلت لها :
إني أتيتك هذه الليلة وأروح قبل الصباح .
فقالت :
أما كفاها أنها تزوجت بك وعملت عليك حيلة وحبستك عندها سنة كاملة حتى حلفتك بالطلاق أن تعود إليها قبل الصباح ولم تسمح لك بأن تتفسح عند أمك ولا عندي ولم يهن عليها أن تبيت عند أحدنا ليلة واحدة فكيف حال من غبت عنها سنة كاملة وقد عرفتك قبلها ? ولكن رحم الله عزيزة فإنها جرى لها ما لم يجر لأحد وصبرت على شيء لم يصبر عليه مثلها وماتت مقهورة منك وهي التي حمتك مني ، وكنت أظنك تجيء فأطلقت سبيلك مع أني كنت أقدر على حبسك وعلى هلاكك .
ثم بكت واغتاظت ونظرت إلي بعين الغضب .
فلما رأيتها على تلك الحالة ارتعدت فرائصي وخفت منها وصرت مثل الفولة على النار ثم قالت لي :
ما بقي فيك فائدة بعدما تزوجت وصار لك ولد فأنت لا تصلح لعشرتي لأنه لا ينفعني إلا الأعزب وأما الرجل المتزوج فإنه لا ينفعني وقد بعتني بتلك العاهرة والله لأحسرنها عليك وتصير لي ولا لها .
ثم صاحت فما أدري إلا وعشر جوار أتين ورمينني على الأرض فلما وقعت تحت أيديهن قامت هي وأخذت سكيناً وقالت :
لأذبحنك ذبح التيوس ويكون هذا أقل جزاء لك على ما فعلت مع ابنة عمك .
فلما نظرت إلى روحي وأنا تحت جواريها وتعفر خدي بالتراب ورأيت السكين في يدها تحققت الموت .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثانية والخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
ثم إن الشاب عزيز قال لتاج الملوك :
ثم استغثت بها فلم تزدد إلا قسوة وأمرتهن أن يكتفنني فكتفنني ورمينني على ظهري وجلسن على بطني وأمسكن رأسي ، وقامت جاريتان فأمرتهما أن يضرباني فضرباني حتى أغمي علي وخفي صوتي فلما استفقت قلت في نفسي :
إن موتي مذبوحاً أهون علي من هذا الضرب .
وتذكرت كلمة ابنة عمي حيث قالت :
كفاك الله شرها .
فصرخت وبكيت حتى انقطع صوتي ثم سنت السكين وقال للجواري :
اكشفن عنه .
فألهمني الله أن أقول الكلمتين اللتين أوصتني بهما ابنة عمي وهما :
الوفاء مليح والغدر قبيح .
فلما سمعت ذلك صاحت وقالت :
رحمك الله يا عزيزة سلامة شبابك ، نفعت ابن عمك في حياتك وبعد موتك .
ثم قالت لي :
والله إنك خلصت من يدي بواسطة هاتين الكلمتين لكن لابد أن أعمل فيك أثراً لأجل نكاية تلك العاهرة التي حجبتك عني .
ثم صاحت علي .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الثالثة والخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن عزيز قال :
وصاحت على الجواري وقالت لهن :
اركبن عليه .
وأمرتهن أن يربطن رجلي بالحبال ففعلن ذلك ، ثم قامت من عندي وركبت طاجناً من نحاس على النار وصبت فيه سيرجاً وقلت فيه جبناً وأنا غائب عن الدنيا ثم جاءت عندي وحلت سروالي وفعلت بي ما منع رجولتي .
وبقيت مثل المرأة ثم كوت موضع القطع وكبسته بذرور وأنا مغمى علي .
فلما أفقت كان الدم قد انقطع فأسقتني قدحاً من الشراب ثم قالت لي :
رح الآن لمن تزوجت بها وبخلت علي بليلة واحدة رحم الله ابنة عمك التي هي سبب نجاتك ولولا أنك أسمعتني كلمتيها لكنت ذبحتك فاذهب في هذه الساعة لمن تشتهي ، وأنا ما كان لي عندك سوى ما قطعته والآن ما بقي لي فيك رغبة ولا حاجة لي بك فقم وملس على رأسك وترحم على ابنة عمك .
ثم رفستني برجلها فقمت وما قدرت أن أمشي فتمشيت قليلاً قليلاً ، حتى وصلت إلى الباب فوجدته مفتوحاً فرميت نفسي فيه وأنا غائب عن الوجود وإذا بزوجتي خرجت وحملتني وأدخلتني القاعة فوجدتني مثل المرأة فنمت واستغرقت في النوم فلما صحوت وجدت نفسي مرمياً على باب البستان .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الرابعة والخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندن قال للملك ضوء المكان :
ثم إن الشاب عزيز قال لتاج الملوك :
فلما صحوت وجدت نفسي مرمياً على باب البستان فقمت وأنا أتضجر وتمشيت حتى أتيت إلى منزلي فدخلت فيه فوجدت أمي تبكي علي وتقول :
يا هل ترى يا ولدي أنت في أي أرض ?
فدنوت منها ورميت نفسي عليها فلما نظرت إلي ورأتني وجدتني على غير استواء وصار على وجهي الاصفرار والسواد ، ثم تذكرت ابنة عمي وما فعلت معي من المعروف وتحققت أنها كانت تحبني فبكيت عليها وبكت أمي ، ثم قالت إلي :
ولدي إن والدك قد مات .
فازددت غيظاً وبكيت حتى أغمي علي . فلما أفقت نظرت إلى موضع ابنة عمي التي كانت تقعد فيه فبكيت ثانياً حتى أغمي علي من شدة البكاء وما زلت في بكاء ونحيب إلى نصف الليل فقالت لي أمي :
إن لوالدك عشرة أيام وهو ميت .
فقلت لها :
أنا لا أفكر في أحد أبداً غير ابنة عمي لأني أستحق ما حصل لي حيث هملتها وهي تحبني .
فقالت :
وما حصل لك ?
فحكيت لها ما حصل لي .
فبكت ساعة ، ثم قامت وأحضرت لي شيئاً من المأكول فأكلت قليلاً وشربت وأعدت لها قصتي ، وأخبرتها جميع ما وقع لي فقالت :
الحمد لله حيث جرى لك هذا وما ذبحتك .
ثم إنها عالجتني وداوتني حتى برأت وتكاملت عافيتي فقالت لي :
يا ولدي الآن أخرج لك الوديعة التي أودعتها ابنة عمك عندي فإنها لك وقد حلفتني أني لا أخرجها لك حتى أراك تتذكرها وتحزن عليها وتقطع علائقك من غيرها والآن رجوت فيك هذه الخصال .
ثم قامت وفتحت صندوقاً وأخرجت منه هذه الخرقة التي فيها صورة هذا الغزال وهي التي وهبتها لها أولاً فلما أخذتها وجدت مكتوباً فيها هذه الأبيات :
أقمتم عيوني في الهوى وأقعدتم ........ وأسهرتموا جفني القريح ونمتم
وقد حملتوا بين الفؤاد وناظـري ........ فلا القلب يسلوكم ولو ذاب منكم
وعاهدتموني أنكم كاتموا الهـوى ........ فأغراكم الواشي وقال وقلتـم
فبالله إخوانـي إذا مـت فاكتبـوا ........ على لوح قبري إن هذا متـيم
فلما قرأت هذه الأبيات بكيت بكاء شديداً ولطمت على وجهي وفتحت الرقعة فوقعت منها ورقة أخرى ففتحتها فإذا مكتوب فيها :
اعلم يا ابن عمي أني جعلتك في حل من دمي وأرجو الله أن يوفق بينك وبين من تحب ولكن إذا أصابك شيء من دليلة المحتالة فلا ترجع إليها ولا لغيرها وبعد ذلك فاصبر على بليتك ولولا أجلك المحتم لهلكت من الزمان الماضي ولكن الحمد لله الذي جعل يومي قبل يومك وسلامي عليك واحتفظ على هذه الخرقة التي فيها صورة الغزال ولا تفرط فيها فإن تلك الصورة كانت تؤانسني إذا غبت عني .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة الخامسة والخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
ثم إن الشاب عزيز قال لتاج الملوك :
إن ابنة عمي قالت لي :
إن قدرت على من صورت هذه الصورة ينبغي أنك تتباعد عنها ولا تخلها تقرب منك ، ولا تتزوج بها وإن لم تقدر عليها ولا تجد لك إليها سبيلاً فلا تقرب واحدة من النساء بعد واعلم أن التي صورت هذه الصورة تصور في كل سنة صورة مثلها وترسلها إلي إلى أقصى البلاد لأجل أن يشيع خبرها وحسن صنعتها التي يعجز عنها أهل الأرض وأما محبوبتك الدليلة المحتالة ، فإنها لما وصلت إليها هذه الخرقة التي فيها صورة الغزال صارت تريها للناس وتقول لهم :
إن لي أختاً تصنع هذا مع أنها كاذبة في قولها هتك الله سترها وما أوصيتك بهذه الوصية إلا لأنني أعلم أن الدنيا قد تضيق عليك بعد موتي وربما تتغرب بسبب ذلك وتطوف البلاد وتهيم بصاحبة هذه الصورة فتتشوق نفسك إلى معرفتها واعلم أن الصبية التي صورت هذه الصورة بنت ملك جزائر الكافور .
فلما قرأت تلك الورقة وفهمت ما فيها بكيت وبكت أمي لبكائي وما زلت أنظر إليها وأبكي إلى أن اقبل الليل ولم أزل على تلك الحالة مدة سنة وبعد السنة تجهز تجار من مدينتي إلى السفر وهم هؤلاء الذين أنا معهم في القافلة فأشارت علي أمي أن أتجهز وأسافر معهم وقالت لي :
لعل السفر يذهب ما بك من هذا الحزن وتغيب سنة أو سنتين أو ثلاثاً حتى تعود القافلة فلعل صدرك ينشرح .
وما زالت تلاطفني بالكلام حتى جهزت متجراً وسافرت معهم وأنا لم تنشف لي دمعة مدة سفري وفي كل منزلة ننزل بها أنشر هذه الخرقة قدامي وأنظر إلى هذه الصورة فأتذكر ابنة عمي وأبكي عليها كما تراني فإنها كانت تحبني محبة زائدة وقد ماتت مقهورة مني وما فعلت معها إلا الضرر مع أنها لم تفعل معي إلا الخير ومتى رجعت التجار من سفرهم أرجع معهم وتكمل مدة غيابي سنة وأنا في حزن زائد ، وما زاد همي وحزني إلا لأني جزت علي جزائر الكافور وقلعة البلور وهي سبع جزائر والحاكم عليهم ملك يقال له شهرمان وله بنت يقال لها دنيا فقيل لي إنها هي التي تصور صورة الغزلان وهذه الصورة التي معك من جملة تصويرها .
فلما علمت ذلك زادت بي الأشواق وغرقت في بحر الفكر والاحتراق ، فبكيت على روحي لأني بقيت مثل المرأة ولم تبق لي آلة مثل الرجال ولا حيلة لي ومن يوم فراقي لجزائر الكافور وأنا باكي العين حزين القلب ولي مدة على هذا الحال وما أدري هل يمكنني أن أرجع إلى بلدي وأموت عند والدتي أو لا وقد شبعت من الدنيا .
ثم بكى وأن واشتكى ونظر إلى صورة الغزال وجرى دمعه على خده وسال وأنشد هذين البيتين :
وقائل قال لـي لا بـد مـن فـرج ........ فقلت للغيظ كم لا بد مـن فـرج
فقال لي بعد حين قلت يا عجـبـي ........ من يضمن العمر لي يا بارد الحجج
وهذه حكايتي أيها الملك .
فلما سمع تاج الملوك قصة الشاب ، تعجب غاية العجب وانطلقت من فؤاده النيران حين سمع بجمال السيدة دنيا .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة السادسة والخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
ثم إن تاج الملوك قال للشاب :
والله لقد جرى لك شيء ما جرى لأحد مثله ، ولكن هذا تقدير ربك وقصدي أن أسألك عن شيء .
فقال عزيز :
وما هو ?
فقال :
تصف لي كيف رأيت تلك الصبية التي صورت الغزال .
فقال :
يا مولاي إني توصلت إليها بحيلة وهو أني لما دخلت مع القافلة إلى بلادها كنت أخرج وأدور في البساتين وهي كثيرة الأشجار ، وحارس البساتين شيخ طاعن في السن فقلت له :
لمن هذا البستان ?
فقال لي :
لابنة الملك ، تخرج في البستان فتشم رائحة الأزهار .
فقلت له :
أنعم علي بأن أقعد في هذا حتى تمر علي أن أحظى منها بنظرة .
فقال الشيخ :
لا بأس بذلك .
فلما قال ذلك أعطيته بعض الدراهم وقلت له :
اشتر لنا شيئاً نأكله .
ففرح بأخذ الدراهم وفتح الباب وأدخلني معه وسرنا وما زلنا سائرين إلى أن وصلنا إلى مكان لطيف وأحضر لي شيئاً من الفواكه اللطيفة وقال لي :
اجلس هنا حتى أذهب وأعود إليك .
وتركني ومضى فغاب ساعة ثم رجع ومعه خروف مشوي فأكلنا حتى اكتفينا وقلبي مشتاق إلى رؤية الصبية فبينما نحن جالسون وإذا بالباب قد انفتح ، فقال لي :
قم اختف .
واختفيت وإذا بطواشي أسود أخرج رأسه من الباب وقال :
يا شيخ باب البستان .
وإذا بالسيدة دنيا طلعت من الباب فلما رأيتها ظننت أن القمر نزل في الأرض فاندهش عقلي وصرت مشتاق إليها كاشتياق الظمآن إلى الماء وبعد ساعة أغلقت الباب ومضت .
فعند ذلك خرجت أنا من البستان وقصدت منزلي وعرفت أني لا أصل إليها ولا أنا من رجالها خصوصاً وقد صرت مثل المرأة فقلت في نفسي :
إن هذه ابنة الملك وأنا تاجر فمن أين لي أن أصل إليها .
فلما تجهز أصحابي للرحيل تجهزت أنا وسافرت معهم وهم قاصدون هذه المدينة ، فلما وصلنا إلى هذا الطريق اجتمعنا بك وهذه حكايتي وما جرى لي والسلام .
فلما سمع تاج الملوك ذلك الكلام اشتغل قلبه بحب السيدة دنيا ثم ركب جواده وأخذ معه عزيز وتوجه به إلى مدينة أبيه وأفرد له داراً ووضع له فيها كل ما يحتاج إليه ، ثم تركه ومضى ودموعه جارية على خدوده لأن السماع يحل محل النظر والاجتماع وما زال تاج الملوك على تلك الحالة ، حتى دخل عليه أبوه فوجده متغير اللون فعلم أنه مهموم ومغموم فقال له :
يا ولدي أخبرني عن حالك وما جرى لك حتى تغير لونك .
فأخبره بجميع ما جرى له من قصة دنيا من أولها إلى آخرها ، وكيف عشقها على السماع ولم ينظرها بالعين ، فقال له والده :
يا ولدي إن أباها ملك وبلاده بعيدة عنا ، فدع عنك هذا وادخل قصر أمك .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية العاشق والمعشوق
الليلة السابعة والخمسين بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن والد تاج الملوك قال له :
يا ولدي إن أباها ملك وبلاده بعيدة عنا فدع عنك هذا وادخل قصر أمك فإن فيه خمسمائة جارية كالأقمار فمن أعجبتك منهن فخذها وإن لم تعجبك منهن نخطب بنتاً من بنات الملوك تكون أحسن من السيدة دنيا .
فقال له :
يا والدي لا أريد غيرها وهي التي صورت صورة الغزال التي رأيتها فلا بد منها وإلا أهجج في البراري واقتل روحي بسببها .
فقال له :
يا ولدي أمهل علي حتى أرسل إلى أبيها وأخطبها منه وأبلغك المرام مثل ما فعلت لنفسي مع أمك وإن لم يرض زلزلت عليه مملكته وجردت عليه جيشاً يكون آخره عندي وأوله عنده .
ثم دعا الشاب عزيز وقال :
يا ولدي هل أنت تعرف الطريق ?
قال :
نعم .
قال له :
أشتهي منك أن تسافر مع وزيري .
فقال له :
سمعاً وطاعة .
ثم جهز عزيز مع وزيره وأعطاهم الهدايا فسافروا أياماً وليالي إلى أن أشرفوا على جزائر الكافور فأقاموا على شاطئ نهر وأنفذ الوزير رسولاً من عنده إلى الملك ليخبره بقدومهم ، وبعد ذهاب الرسول بنصف يوم لم يشعر إلا وحجاب الملك وأمراؤه قد أقبلوا عليهم ولاقوهم من مسيرة فرسخ فنقلوهم وساروا في خدمتهم إلى أن دخلوا بهم على الملك فقدموا له الهدايا وأقاموا عنده أربعة أيام وفي اليوم الخامس قام الوزير ودخل على الملك ووقف بين يديه وحدثه بحديثه وأخبره بسبب مجيئه فصار الملك متحيراً في رد الجواب لأن ابنته لا تحب الزواج وأطرق برأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلى بعض الخدام وقال له :
اذهب إلى سيدتك دنيا وأخبرها بما سمعت وبما جاء به هذا الوزير .
فقام الخادم وغاب ساعة ثم عاد إلى الملك وقال له :
يا ملك الزمان لما دخلت على السيدة دنيا أخبرتها بما سمعت فغضبت غضباً شديداً ، ونهضت علي بمسوقة وأرادت كسر رأسي ففررت منها هارباً وقالت لي :
إن كان يغصبني على الزواج فالذي أتزوج به أقتله .
فقال أبوها للوزير وعزيز :
سلما على الملك وأخبراه بذلك وإن ابنتي لا تحب الزواج .