-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة التاسعة والسبعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت :
إن الأحنف بن قيس قال لمعاوية لما سأله :
وأدم السواك فإن فيه اثنين وسبعين فضيلة وغسل الجمعة كفارة لما بين الجمعتين .
قال له معاوية :
كيف رأيك لنفسك ?
قال :
أوطئ قدمي على الأرض وأنقلهم على تمهل وأراعيها بعيني .
قال :
كيف رأيك إذا دخلت على نفر من قومك دون الأمراء ?
قال :
أطرق حياء وأبدأ بالسلام وأدع ما لا يعنيني وأقل الكلام .
قال :
كيف رأيك إذا دخلت على نظرائك ?
قال :
استمع لهم إذا قالوا ولا أجول عليهم إذا جالوا .
قال :
كيف رأيك إذا دخلت على أمرائك ?
قال :
أسلم من غير إشارة وأنتظر الإجابة فإن قربوني قربت وإن بعدوني بعدت .
قال :
كيف رأيك مع زوجتك ?
قال :
اعفني من هذا يا أمير المؤمنين .
قال :
أقسمت عليك أن تخبرني .
قال :
أحسن الخلق وأظهر العشرة وأوسع النفقة فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج .
قال :
فما رأيك إذا أردت أن تجامعها ?
قال :
أكلمها حتى تطيب نفسها وألثمها حتى تطرب فإن كان الذي تعلم طرحتها على ظهرها وإن استقرت النطفة في قرارها قلت :
اللهم اجعلها مباركة ولا تجعلها شقية وصورها أحسن تصوير ثم أقوم عنها إلى الوضوء فأفيض الماء على يدي ثم أصبه على جسدي ثم أحمد الله على ما أعطاني من النعم .
فقال معاوية :
أحسنت في الجواب فقل حاجتك ?
فقال :
حاجتي أن تتق الله في الرعية وتعدل بينهم بالسوية .
ثم نهض قائماً من مجلس معاوية فلما ولى قال معاوية :
لو لم يكن بالعراق إلا هذا لكفى .
ثم إن نزهة الزمان قالت :
وهذه النبذة من جملة باب الأدب واعلم أيها الملك أنه كان معيقب عادلاً على بيت المال ، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان ، قالت :
واعلم أيها الملك أنه كان معيقب عاملاً على بيت المال في خلافة عمر بن الخطاب فاتفق أنه رأى بن عمر يوماً فأعطاه درهماً من بيت المال ، قال معيقب :
وبعد أن أعطيته الدرهم انصرفت إلى بيتي فبينما أن أجالس وإذا برسول عمر جاءني فذهبت معه وتوجهت إليه فإذا الدرهم في يده وقال لي :
ويحك يا معيقب أني قد وجدت في نفسك شيئاً .
قلت :
ماذا يا أمير المؤمنين ؟
قال :
إنك تخاصم أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدرهم يوم القيامة .
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كتاباً مضمونه :
إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس الذي لهم واحمل ما بقي .
ففعل فلما أعطوا عثمان الخلافة كتب إلى أبي موسى ذلك ففعل ، وجاء زياد معه وضع الخراج بين يدي عثمان جاء راشد فأخذ منه درهماً فبكى زياد فقال عثمان :
ما يبكيك ?
قال :
أتيت عمر بن الخطاب بمثل ذلك أخذ ابنه فأمر بنزعه من يده وابنك أخذ فلم أر أحداً ينزعه منه أو يقول له شيئاً .
فقال عثمان :
وأين نلقى مثل عمر .
روى زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال :
خرجت مع عمر ذات ليلة حتى أشرفنا على نار تضرم فقال :
يا أسلم إني أحسب هؤلاء ركباً أضربهم البرد ، فانطلق بنا إليهم .
فخرجنا حتى أتينا إليهم فإذا امرأة توقد ناراً تحت قدر ومعها صبيان يتضاغون ، فقال عمر :
السلام عليكم أصحاب الضوء وكره أن يقول أصحاب النار ما بالكم ?
قالت :
اضربنا البرد والليل .
قال :
فما بال هؤلاء يضاغون ?
قالت :
من الجوع .
قال :
فما هذا القدر ?
قالت :
ماء أسكتهم به وإن عمر بن الخطاب ليسأله الله يوم القيامة .
قال :
وما يدري عمر بحالكم ?
قالت :
كيف يتولى أمور الناس ويغفل عنهم ?
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الحادية والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن أسلم قال :
فأقبل عمر علي وقال :
انطلق بنا .
فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الصرف فأخرج عدلاً فيه دقيق وإناء فيه شحم ثم قال :
حملني هذا .
فقلت :
أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين .
فقال :
أتحمل عن وزري يوم القيامة ?
فحملته إياه وخرجنا نهرول حتى ألقينا ذلك العدل عندها ثم أخرج من الدقيق شيئاً وجعل يقول للمرأة :
زددي إلي .
وكان ينفخ تحت القدر وكان ذا لحية عظيمة فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ وأخذ مقدار من الشحم فرماه فيه ثم قال :
أطعميهم وأنا أبرد لهم .
ولم يزالوا كذلك حتى أكلوا وشبعوا وترك الباقي عندها ثم أقبل علي وقال :
يا أسلم إني رأيت الجوع أبكاهم فأحببت أن لا أنصرف ، حتى يتبين لي سبب الضوء الذي رأيته .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثانية والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت :
قيل أن عمر مر براع مملوك فابتاعه شاة .
فقال له :
إنها ليست لي .
فقال :
أنت القصد .
فاشتراه ثم أعتقه وقال :
اللهم كما رزقتني العتق الأصغر ارزقني العتق الأكبر .
وقيل أن عمر بن الخطاب يطعم الحليب للخدم ، ويأكل اللبن ويكسوهم الغليظ ويلبس الخشن ويعطي الناس حقوقهم ويزيد في عطائهم وأعطى رجلاً أربعة آلاف درهم وزده ألفاً فقيل :
أما تزيد ابنك كما أزدت هذا ?
قال :
أتيت والده يوم أحد .
وقال الحسن :
أتى عمر بمال كثير فأتته حفصة وقالت له :
يا أمير المؤمنين حق قرابتك .
فقال :
يا حفصة إنما أوصى الله بحق قرابتي من مالي وأما مال المسلمين فلا يا حفصة قد أرضيت قومك وأغضبت أباك .
فقامت تجر ذيلها .
وقال ابن عمر :
تضرعت إلى ربي سنة من السنين أن يريني أبي حتى رأيته يمسح العرق عن جبينه فقلت له :
ما حالك يا والدي ?
فقال :
لولا رحمة ربي لهلك أبوك .
قالت نزهة الزمان :
اسمع ايها الملك السعيد الفصل الثاني من الباب الثاني وهو باب الأدب والفضائل وما ذكر فيه من أخبار التابعين والصالحين .
قال الحسن البصري :
لا تخرج نفس آدم عن الدنيا إلا وهو يتأسف على ثلاثة أشياء :
عدم تمتعه بما سمع ، وعدم إدراكه لما أملى ، وعدم استعداده بكثرة الزاد لما هو قادم عليه .
وقيل لسفيان :
هل يكون الرجل زاهد وله مال ?
قال :
نعم إذا كان متى خسر صبر ومتى أعطى شكر .
وقيل لما حضرت عبد الله بن شداد الوفاة أحضر ولده محمد فأوصاه وقال له :
يا بني إني لأرى داعي الموت قد دعاني فاتق ربك في السر والعلانية واشكر الله على ما أنعم واصدق في الحديث ، فالشكر يؤذن بازدياد النعم والتقوى خير زاد في الميعاد .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثالثة والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن عبد الله بن شداد يوصي ولده بأن التقوى خير زاد في الميعاد كما قال بعضهم :
ولست ارى السعادة جمع مال ........ ولكن التقي هو الـسـعـيد
وتقوى الله خـير زاد حـقـاً ........ وعند الله تلقـى مـا تـريد
ثم قالت نزهة الزمان :
ليسمع الملك هذه النكت من الفصل الثاني من الباب الأول .
قيل لها :
وما هي ?
قالت :
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاء لأهل بيته فأخذ ما بأيديهم ووضعه في بيت المال ففزعت بنو أميه إلى عمته فاطمة بنت مروان فأرسلت إليه قائلة :
إنه لا بد من لقائك ، ثم أتته ليلاً فأنزلها عن دابتها فلما أخذت مجلسها قال لها :
يا عمة أنت أولى بالكلام لأن الحاجة لك فأخبريني عن مرادك .
فقالت :
يا أمير المؤمنين أنت أولى بالكلام ورأيك يستكشف ما يخفي عن الأفهام .
فقال عمر ابن عبد العزيز :
إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلمً رحمة للعالمين وعذاباً لقوم آخرين ثم اختار له ما عنده فقبضه إليه .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الرابعة والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت :
فقال عمر بن عبد العزيز :
إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وعذاباً لقوم آخرين ثم اختار له ما عنده فقبضه إليه وترك للناس نهراً يروي عطاشهم ، ثم قال أبو بكر خليفة بعده فأجرى النهر مجراه وعمل ما يرضي الله ، ثم قام عمر بعد أبي بكر فعمل خير أعمال الأبرار واجتهد اجتهاداً ما يقدر أحد على مثله ، فلما قام عثمان اشتق من النهر نهراً ثم ولى معاوية فاشتق منه يزيد وبنو مروان كعبد الملك والوليد وسليمان حتى آل الأمر إلي فأحببت أن أرد النهر إلى ما كان عليه .
فقالت :
قد أردت كلامك ومذكراتك فقط فإن كانت هذه مقالتك فلست بذاكرة لك شيئاً .
ورجعت إلى بني أمية فقالت لهم :
ذوقوا عاقبة أمركم بتزويجكم إلى عمر بن الخطاب .
وقيل لما حضر عمر بن عبد العزيز الوفاة جمع أولاده حوله فقال له مسلمة بن عبد الملك :
يا أمير المؤمنين كيف تترك أولادك فقراء وأنت راعيهم ، فما يمنعك أحد في حياتك في أن تعطيهم من بيت المال ما يغنيهم وهذا أولى من أن ترجعه إلى الوالي بعدك ?
فنظر إلى مسلمة نظرة مغضب متعجب ثم قال :
يا مسلمة منعتهم أيام حياتي فكيف أشقى بهم في مماتي ? إن أولادي ما بين رجلين إما مطيع لله تعلى فالله يصلح شأنه وإما عاص فما كنت لأعينه على معصيته ، يا مسلمة إني حضرت وإياك حين دفن بعض بني مروان فحملتني عيني فرأيته في المنام أفضى إلي أمر من أمور الله عز وجل فهالني وراعني فعاهدت الله أن لا أعمل عمله إن وليت ، وقد اجتهدت في ذلك مدة حياتي وأرجو أن أفضي إلى عفو ربي .
قال مسلمة :
بقي رجل حضرت دفنه فلما فرغت من دفنه حملتني عيني فرأيته فيما يرى النائم في روضة فيها أنهار جارية وعليه ثياب بيض فأقبل علي وقال :
يا مسلمة لمثل هذا فليعمل العاملون ونحو هذا كثير .
وقال بعض الثقات :
كنت أحلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز فمررت براع فرأيت مع غنمه ذئباً أو ذئاباً فظننت أنها كلابه ولم أكن رأيت الذئاب قبل ذلك فقلت له :
ماذا تصنع بهذه الكلاب ?
فقال :
إنها ليست كلاباً بل هي ذئاب .
فقلت :
هل ذئاب في غنم لم تضرها ?
فقال :
إذا أصلح الرأس صلح الجسد .
وخطب عمر بن عبد العزيز على منبر من طين فحمد الله وأثنى عليه ، ثم تكلم بثلاث كلمات فقال :
أيها الناس أصلحوا أسراركم لتصلح علانيتكم لإخوانكم وتكفوا أمر دنياكم واعلموا أن الرجل ليس بينه وبين آدم رجل حي في الموتى ، مات عبد الملك ومن قبله ويموت عمر ومن بعده .
فقال له مسلمة :
يا أمير المؤمنين لو علمنا أنك متكئاً لتقعد عليه قليلاً فقال :
أخاف أن يكون في عنقي منه يوم القيامة ، ثم شهق شهقة فخر مغشياً .
فقالت فاطمة :
يا مريم يا مزاحم يا فلان انظروا هذا الرجل .
فجاءت فاطمة تصب عليه الماء وتبكي حتى أفاق من غشيته فرآها تبكي فقال :
ما يبكيك يا فاطمة ?
قالت :
يا أمير المؤمنين رأيت مصرعك بين أيدينا فتذكرت مصرعك بين يدي الله عز وجل للموت وتخليك عن الدنيا وفراقك لنا فذاك الذي أبكانا .
فقال :
حسبك يا فاطمة فلقد أبلغت .
ثم أراد القيام فنهض ثم سقط فضمته فاطمة إليها وقالت :
بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين ما نستطيع أن نكلمك كلنا .
ثم إن نزهة الزمان قالت لأخيها شركان وللقضاة الأربعة تتمة الفصل الثاني من الباب الأول .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الخامسة والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت لأخيها شركان وهي لم تعرفه بحضور القضاة الأربعة والتاجر تتمة الفصل الثاني من الباب الأول اتفق أن كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الموسم :
أما بعد فإني أشهد الله في الشهر الحرام ولبلد حرام ويوم الحج الأكبر أني أبرأ في ظلمكم وعدوان من اعتدى عليكم أن أكون أمرت بذلك أو تعمدته أو يكون أمر من أموره بلغني أو أحاط به علمي وأرجو أن يكون لذلك موضع من الغفران إلا أنه لا أذن مني بظلم أحد فإني مسئول عن كل مظلوم إلا وأي عامل من عمالي زاغ عن الحق وعمل بلا كتاب ولا سنة ، فلا له طاعة عليكم حتى يرجع إلى الحق .
وقال رضي الله عنه :
ما أحب أن يخفف عني الموت لأنه آخرة يجر عليه المؤمن .
وقال بعض الثقات :
قدمت على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فرأيت بين يديه اثني عشر درهماً فأمر وضعها في بيت المال .
قلت :
يا أمير المؤمنين إنك أفقرت أولادك وجعلتهم عيالاً لا شيء لهم فلوا أوصيت إليهم بشيء ولى من هو فقير من أهل بيتك .
فقال :
ادن مني .
فدنوت منه فقال :
أما قولك أفقرت أولادك فأوص إليهم أو إلى من هو فقير من أهل بيتك فغير سديد لأن الله خليفتي على أولادي وعلى من هو فقير من أهل بيتي وهو وكيل عليهم وهم ما بين رجلين إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً وإما رجل معتكف على المعاصي فإني لم أكن لأقويه على معصية الله .
ثم بعث إليهم وأحضرهم بين يديه وكانوا اثني عشر ذكراً ، فلما نظر إليهم ذرفت عيناه بالدموع ثم قال :
إن أباكم ما بين أمرين :
إما أن تستغنوا فيدخل أبوكم النار وإما أن تفتقروا فيدخل أبوكم الجنة ودخول أبيكم الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ، فدموا قد وكلت أمركم إلى الله .
وقال خالد بن صفوان :
صحبني يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك فلما قدمت عليه وقد خرج بقرابته وخدمه فنزل في أرض وضرب له خيام ، فلما أخذت الناس مجالسهم خرجت من ناحية البساط فنظرت إليه فلما صارت عيني في عينه قلت له :
تمم الله نعمته عليك يا أمير المؤمنين إني أجد لك نصيحة أبلغ من حديث من سلف قبلك من الملوك .
فاستوى جالساً وكان متكئاً وقال :
هات ما عندك يا ابن صفوان .
فقلت :
يا أمير المؤمنين إن ملكاً من الملوك خرج قبلك في عام قبل عامك هذا إلى هذه الأرض فقال لجلسائه :
هل رأيتم مثل ما أنا فيه ? وهل أعطى أحد مثل ما أعطيته ?
وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة والمعينين على الحق السالكين في منهاجه فقال :
أيها الملك إنك سألت عن أمر عظيم أتأذن لي في الجواب عنه ?
قال :
نعم .
قال :
رأيت الذي أنت فيه لم يزل زائلاً .
فقال :
هو شيء زائل .
قال :
فما لي أراك قد أعجبت بشيء تكون فيه قليلاً وتسأل عنه طويلاً وتكون عند حسابه مرتهناً ?
قال :
فأين المهرب وأين المطلب ?
قال :
إن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة الله تعالى أو تلبس أطمارك وتعبد ربك حتى يأتيك أجلك فإذا كان السحر فإني قادم عليك .
قال خالد بن صفوان :
ثم إن الرجل قرع عليه بابه عند السحر فرآه قد وضع تاجه وتهيأ للسياحة من عظم موعظته .
فبكى هشام بن عبد الملك بكاءاً كثيراً حتى بلل لحيته وأمر بنزع ما عليه ولزم قصره فأتت الموالي والخدم إلى خالد بن صفوان وقالوا :
أهكذا فعلت يا أمير المؤمنين أفسدت لذته ونغصت حياته ?
ثم إن نزهة الزمان قالت لشركان :
وكم في هذا الباب من النصائح ، وإني أعجز عن الاتيان بجميع ما في هذا الباب في مجلس واحد .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السادسة والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان قالت لشركان :
وكم في هذا الباب من النصائح وإني لأعجز عن الإتيان لك بجميع ما قيل في هذا الباب في مجلس واحد ولكن على طول الأيام يا ملك الزمان يكون خيراً .
فقال القضاة :
أيها الملك إن هذه الجارية أعجوبة الزمان ويتيمة العصر والأوان فإننا ما رأينا ولا سمعنا بمثلها في زمن من الأزمان .
ثم إنهم ودعوا الملك وانصرفوا ، فعند ذلك التفت شركان إلى خدمه وقال لهم :
اشرعوا في عمل العرس وهيئوا الطعام من جميع الألوان .
فامتثلوا لأمره في الحال وهيأوا جميع الأطعمة وأمر نساء الأمراء والوزراء وعظماء الدولة أن لا ينصرفوا حتى يحضروا جلاء العروس ، فما جاء وقت العصر حتى مدوا السفرة مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأكل جميع الناس حتى اكتفوا ، وأمر الملك أن تحضر كل مغنية في دمشق فحضرن وكذلك جواري الملك اللاتي يعرفن الغناء وطلع جميعهن إلى القصر .
فلما أتى المساء وأظلم الظلام أوقدوا الشموع في باب القلعة إلى باب القصر يميناً وشمالاً ومشى الأمراء والوزراء والكبراء بين يدي الملك شركان وأخذت المواشط الصبية ليزينها ويلبسنها فرأينها لا تحتاج إلى زينة وكان الملك شركان قد دخل الحمام ، فلما خرج جلس على المنصة وجليت عليه العروس ثم خففوا عنها ثيابها وأوصوها بما توصى به البنات ليلة الزفاف ودخل عليها شركان وأخذ وجهها وعلقت منه في تلك الليلة وأعلمته بذلك ففرح فرحاً شديداً وأمر الحكماء أن يكتبوا تاريخ الحمل ، فلما أصبح جلس على الكرسي وطلع له أرباب دولته وهنئوه وأحضر كاتب سره وأمره أن يكتب كتاباً لوالده عمر النعمان بأنه اشترى جارية ذات علم وخلق قد حوت فنون الحكمة وأنه لا بد من إرسالها إلى بغداد لتزور أخاه ضوء المكان وأخته نزهة الزمان وأنه أعتقها وكتب كتابه عليها ودخل بها وحملت منه .
ثم ختم الكتاب وأرسله إلى أبيه بصحبة بريد فطال ذلك البريد شهراً كاملاً ثم رجع إليه بجوابه وناوله فأخذه وقرأه فإذا فيه البسملة هذا من عند الحائر الولهان الذي فقد الولدان وهجر الأوطان الملك عمر النعمان إلى ولده شركان ، اعلم أنه بعد مسيرك من عندي ضاق علي المكان حتى لا أستطيع صبراً ولا أقدر أن أكتم سراً ، وسبب ذلك أنني ذهبت إلى الصيد والقنص وكان ضوء المكان قد طلب مني الذهاب إلى الحجاز فخفت عليه من نوائب الزمان ومنعته من السفر إلى العام الثاني أو الثالث ، فلما ذهبت إلى الصيد والقنص غبت شهراً .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السابعة والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك عمر النعمان قال في مكتوبه :
فلما ذهبت إلى الصيد والقنص غبت شهراً فلما أتيت وجدت أخاك وأختك أخذا شيئاً من المال وسافرا مع الحجاج خفية ، فلما علمت بذلك ضاق بي الفضاء وقد انتظرت مجيء الحجاج لعلهما يجيئان فلما جاء الحجاج سألت عنهما فلم يخبرني أحد بخبرهما فلبست لأجلهما ثياب الحزن وأنا مرهون الفؤاد عديم الرقاد غريق دامع العينين ، ثم أنشد هذين البيتين :
خيالهما عندي لـيس بـغـائب ........ جعلت له القلب أشرف موضع
ولولا رجاء لعود ما عشت ساعة ........ ولولا خيال الطيف لم أتهجـع
ثم كتب :
بعد السلام عليك وعلى من عندك أعرفك أنك لا تتهاون في كشف الأخبار فإن هذا علينا عار .
فلما قرأ الرسالة حزن على حزن أبيه وفرح لفقد أخته وأخيه وأخذ الكتاب ودخل به على زوجته نزهة الزمان ولم يعلم أنها أخته وهي لا تعلم أنه أخوها مع أنه يتردد عليها ليلاً ونهاراً إلى أن أكملت أشهرها وجلست على كرسي الطلق فسهل الله عليها الولادة فولدت بنتاً فأرسلت تطلب شركان فلما رأته قالت له :
هذه ابنتك فسمها ما تريد فإن عادة الناس أن يسموا أولادهم في سابق يوم ولادتهم .
ثم انحنى شركان على ابنتها وقبلها فوجد في عنقها خرزة معلقة من الثلاث خرزات التي جاءت بها الملكة إبريزة من بلاد الروم ، فلما عاين الخرزة حتى عرفها حق المعرفة ، ثم نظر إلى نزهة الزمان وقال لها :
من أين جاءتك هذه الخرزة يا جارية ?
فلما سمعت من شركان ذلك الكلام قالت له :
أنا سيدتك وسيدة كل من في قصرك أما تستحي وأنت تقول يا جارية ? وأنا ملكة بنت ملك والآن زال الكتمان واشتهر الأمر وبان أنا نزهة الزمان بنت الملك عمر النعمان .
فلما سمع منها هذا الكلام لحقه الارتعاش وأطرق برأسه إلى الأرض .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثامنة والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن شركان لما سمع هذا الكلام ارتجف قلبه واصفر لونه ولحقه الاتعاش وأطرق برأسه إلى الأرض وعرف أنها أخته من أبيه فغشي عليه ، فلما أفاق صار يعجب ولكنه لم يعرفها بنفسه وقال لها :
يا سيدتي هل أنت بنت الملك عمر النعمان ?
قالت :
نعم .
فقال لها :
وما سبب فراقك لأبيك وبيعك ?
فحكت له جميع ما وقع لها من الأول إلى الآخر وأخبرته أنها تركت أخاها مريضاً في بيت المقدس وأخبرته باختطاف البدوي لها وبيعه إياها للتاجر .
فلما سمع شركان ذلك الكلام تحقق أنها أخته من أبيه وقال في نفسه :
كيف أتزوج بأختي ? لكن إنما أزوجها لواحد من حجاب وإذا ظهر أمر أدعي أنني طلقتها قبل الدخول وزوجتها بالحاجب الكبير .
ثم رفع رأسه وتأسف وقال :
يا نزهة الزمان أنت أختي حقيقة واستغفر الله من هذه الذنب الذي وقعنا فيه فإنني أنا شركان ابن الملك عمر النعمان .
فنظرت إليه وتأملته فعرفته فلما عرفته غابت عن صوابها وبكت ولطمت وجهها وقالت :
قد وقعنا في ذنب عظيم ، ماذا يكون العمل وما أقول لأبي وأمي إذا قالا لي من أين جاءتك هذه البنت ?
فقال شركان :
الرأي عندي أن أزوجك بالحاجب وأدعك تربي بنتي في بيته بحيث لا يعلم أحد بأنك أختي وهذا الذي قدره الله علينا وأراده ، فلا يسترنا إلا زواجك بهذا الحاجب قبل أن يدري أحد .
ثم صار يأخذ بخاطرها ويقبل رأسها فقالت له :
وما تسمي البنت ?
قال :
أسميها قضى فكان .
ثم زوجها للحاجب الأكبر ونقلها إلى بيته هي وبنتها فربوها على أكتاف الجواري وواظبوا عليها بالأشربة وأنواع السفوف ، هذا كله وأخوها ضوء المكان مع الرقاد بدمشق .
فاتفق أنه أقبل يوماً من الأيام من عند الملك عمر النعمان إلى الملك شركان ومعه رسالة فأخذها وقرأها فرأى فيها :
بعد البسملة اعلم أيها الملك العزيز أني حزين حزناً شديداً على فراق الأولاد وعدمت الرقاد ولازمني السهاد وقد أرسلت هذه الرسالة إليك فحال حصولها بين يديك ترسل إلينا الخراج وترسل صحبته الجارية التي اشتريتها وتزوجت بها فإني أحببت أن أراها وأسمع كلامها لأنه جاءنا من بلاد الروم عجوز من الصالحات وصحبتها خمس جوار نهد أبكار وقد حازوا من العلم وفنون الحكمة ما يجب على الإنسان معرفته ، ويعجز عن وصف هذه العجوز ومن معها اللسان ، فإنهن جزن أنواع العلم والفضيلة والحكمة فلما رأيتهن أحببتهن وقد اشتهيت أن يكن في قصري وفي ملك يدي لأنه لا يوجد لهن نظير عند سائر الملوك ، فسألت المرأة العجوز عن ثمنهن فقالت :
لا أبيعهن إلا بخراج دمشق .
وأنا أرى خراج دمشق قليلاً في ثمنهن ، فإن الواحدة منهن تساوي أكثر من هذا المبلغ ، فأجبتها إلى ذلك ودخلت بهن قصري وبقين في حوزتي ، فعجل لنا بالخراج لأجل أن تسافر المرأة بلادها وأرسل لنا الجارية لأجل أن تناظرهن .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة التاسعة والثمانين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك عمر النعمان قال في مكتوبه :
وأرسل لنا الجارية لأجل أن تناظرهن بين العلماء فإذا غلبتهن أرسلتها إليك وصحبتها خراج بغداد .
فلما علم ذلك شركان أقبل على صهره وقال :
هات الجارية التي زوجتك إياها .
فلما حضرت أوفقها على الرسالة وقال لها :
يا أختي ما عندك من الرأي في رد جوابنا عليه ?
فقالت له :
الرأي رأيك .
ثم قالت له وقد اشتاقت إلى أهلها ووطنها :
أرسلني صحبة زوجة الحاجب لأجل أن أحكي لأبي حكايتي وأخبره بما وقع لي مع البدوي الذي باعني للتاجر وأخبره بأن التاجر باعني لك وزوجني للحاجب بعد عتقي .
فقال لها شركان :
وهو كذلك .
ثم أخذ ابنته قضى فكان وسلمها للمراضع والخدم وشرع في تجهيز الخراج وأمر الحاجب أن يأخذ الخراج والجارية صحبته ويتوجه إلى بغداد فأجابه الحاجب بالسمع والطاعة فأمر بمحفة يجلس فيها وللجارية بمحفة أيضاً ثم كتب كتاباً وسلمه للحاجب وودع نزهة الزمان وكان قد أخذ منها الخرزة وجعلها في عنق أبيه في سلسلة من خاص الذهب ، ثم سافر الحاجب في تلك الليلة ، فاتفق أنه خرج ضوء المكان هو والوقاد في تلك الليلة يتفرجان فرأيا جمالاً وبغالاً ومشاعل وفوانيس مضيئة فسأل ضوء المكان عن هذه الأحمال وعن صاحبها ، فقيل له :
هذا خراج دمشق مسافر إلى الملك عمر النعمان صاحب مدينة بغداد .
فقال :
ومن رئيس هذه المحافل ?
قيل :
هو الحاجب الكبير الذي تزوج الجارية التي تعلمت العلم والحكمة .
فعند ذلك بكى بكاء شديداً وتذكر أمه وأباه وأخته ووطنه وقال للوقاد :
ما بقي لي قعود هنا بل أسافر مع هذه القافلة وأمشي قليلاً حتى أصل إلى بلادي .
فقال له الوقاد :
أنا ما آمنت عليك في القدس إلى دمشق فكيف آمن عليك إلى بغداد وأنا أكون معك حتى تصل إلى مقصدك .
فقال ضوء المكان :
حباً وكرامة .
فشرع الوقاد في تجهيز حاله ثم شد الحمار وجعل خرجه عليه ووضع فيه شيئاً من الزاد وشد وسطه وما زال على أهبة حتى جازت عليه الأجمال والحاجب راكب على هجين والمشاة حوله وركب ضوء المكان حمار الوقاد وقال للوقاد :
اركب معي .
فقال :
لا أركب ولكن أكون في خدمتك .
فقال ضوء المكان :
لابد أن تركب ساعة .
فقال :
إذا تعبت اركب ساعة .
ثم إن ضوء المكان قال للوقاد :
يا أخي سوف تنظر ما أفعل بك إذا وصلت إلى أهلي .
وما زالوا مسافرين إلى أن طلعت الشمس فلما اشتد عليهم الحر أمرهم الحاجب بالنزول واستراحوا وسقوا جمالهم ثم أمرهم بالمسير ، وبعد خمسة أيام وصلوا إلى مدينة حماه ونزلوا بها وأقاموا بها ثلاثة أيام .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة التسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أنهم أقاموا في مدينة حماه ثلاثة أيام ثم سافروا وما زالوا مسافرين حتى وصلوا مدينة أخرى فأقاموا بها ثلاثة أيام ، ثم سافروا حتى وصلوا إلى ديار بكر وهب عليهم نسيم بغداد فتذكر ضوء المكان أخته نزهة الزمان وأباه وأمه ووطنه وكيف يعود إلى أبيه بغير أخته فبكى وإن اشتكى واشتدت به الحسرات فأنشد هذه الأبيات :
خليلي كم هذا التأنـى واصـبـر ........ ولم يأتني منكم رسـول يخـبـر
إلا أن أيام الـوصـال قـصـيرة ........ فيا ليت أيام التفـرق تـقـصـر
خذوا بيدي ثم ارحموا لصبابـتـي ........ تلاشى بها جسمي وإن كنت أصبر
فإن تطلبوا مني سلوا أقـل لـكـم ........ فوالله ما أسلوا لي حين أحـشـر
فقال له الوقاد :
اترك هذا البكاء والأنين فإننا قريبون من خيمة الحاجب .
فقال ضوء المكان :
لابد من إنشادي شيئاً من الشعر لعل نار قلبي تنطفئ .
فقال له الوقاد :
بالله عليك أن تترك الحزن حتى تصل إلى بلادك وافعل بعد ذلك ما شئت وأنا معك حينما كنت .
فقال ضوء المكان :
والله لا أفتر عن ذلك .
ثم التفت إلى ناحية بغداد وكان القمر مضيئاً وكانت نزهة الزمان لم تنم تلك الليلة لأنها تذكرت أخاها ضوء المكان فقلقت وصارت تبكي ، فبينما هي تبكي إذ سمعت أخاها ضوء المكان يبكي وينشد هذه الأبيات :
لمع البرق اليمـانـي ........ فشجاني ما شجانـي
من حبيب كان عنـدي ........ ساقياً كأس التهانـي
يا وميض البرق هـل ........ ترجع أيام التـدانـي
يا عذولي لا تلمـنـي ........ إن ربي قد بـلانـي
بحبيب غاب عـنـي ........ وزمان قد دهـانـي
قد تأت نزهة قلـبـي ........ عندما ولى زمانـي
وحوى لي الهم صرفاً ........ وبكأس قد سقـانـي
وأراني يا خـلـيلـي ........ مت من قبل التدانـي
يا زماناً للتـصـابـي ........ عد قريباً بالأمـانـي
في سرور مع أمـان ........ من زمان قد رماني
من لمسكين غـريب ........ بات مرعوب الجنان
صار في الحزن فريداً ........ بعد نزهات الزمـان
حكمت فينا بـرغـم ........ كف أولاد الـزمـان
فلما فرغ من شعره صاح وخر مغشياً عليه .
هذا ما كان من أمره .
وأما ما كان من أمر نزهة الزمان فإنها كانت ساهرة في تلك الليلة لأنها تذكرت أخاها في ذلك المكان ، فلما سمعت ذلك الصوت بالليل ارتاح فؤادها وقامت وتنحنحت ودعت الخادم فقال لها :
ما حاجتك ?
فقال له :
قم وائتني بالذي ينشد الأشعار .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الواحدة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان لما سمعت من أخيها الشعر دعت الخادم الكبير وقالت له :
اذهب وائتني بمن ينشد هذه الأشعار .
فقال لها :
إني لم أسمعه ولم أعرفه والناس كلهم نائمون .
فقالت له :
كل من رأيته مستيقظاً فهو الذي ينشد الأشعار ففتش .
فلم ير مستيقظاً سوى الرجل الوقاد ، وأما ضوء المكان فإنه كان في غشيته ، فلما رأى الوقد الخادم واقفاً على رأسه خاف منه فقال له الخادم :
هل أنت الذي كنت تنشد الأشعار وقد سمعتك سيدتنا ?
فاعتقد الوقاد أن السيدة اغتاظت من الإنشاد فخاف وقال :
والله ما هو أنا .
فقال له الخادم :
ومن الذي كان ينشد الشعر فدلني عليه فإنك تعرفه لأنك يقظان .
فخاف الوقاد على ضوء المكان وقال في نفسه :
ربما يضره الخادم بشيء .
فقال له :
لم أعرفه .
فقال له الخادم :
والله إنك تكذب فإنه ما هنا قاعد إلا أنت فأنت تعرفه .
فقال له الوقاد :
أنا أقول لك الحق ، إن الذي كان ينشد الأشعار رجل عابر طريق وهو الذي أزعجني وأقلقني فالله يجازيه .
فقال له الخادم :
فإذا كنت تعرفه فدلني عليه وأنا أمسكه وآخذه إلى باب المحفة التي فيها سيدتنا وأمسكه أنت بيدك .
فقال له :
اذهب أنت حتى آتيك به .
فتركه الخادم وانصرف ودخل وأعلم سيدته بذلك وقال :
ما أحد يعرفه لأنه عابر سبيل .
فسكتت .
ثم إن ضوء المكان لما أفاق من غشيته رأى القمر قد وصل إلى وسط السماء وهب عليه نسيم الأسحار فهيج في قلبه البلابل والأشجان فحسس صوته وأراد أن ينشد فقال له الوقاد :
ماذا تريد أن تصنع ?
فقال :
أريد أن أنشد شيئاً من الشعر لأطفئ به نيران قلبي .
قال له :
أما علمت بما جرى لي وما سلمت من القتل إلا بأخذ خاطر الخادم .
فقال له ضوء المكان :
وماذا جرى فأخبرني بما وقع ?
فقال :
يا سيدي قد أتاني الخادم وأنت مغشي عليك ومعه عصا طويلة من اللوز وجعل يتطلع في وجوه الناس وهم نائمون ويسأل على كل من ينشد الأشعار فلم يجد من هو مستيقظ غيري فسألني فقلت له :
إنه عابر سبيل فانصرف وسلمني الله منك وإلا كان قتلني .
فقال لي :
إذا سمعته ثانياً فإت به عندنا .
فلما سمع ضوء المكان ذلك بكى وقال :
من يمنعني من الإنشاد فأنا أنشد ويجري علي ما يجري فإني قريب من بلادي ولا أبالي بأحد .
فقال له الوقاد :
أنت ما مرادك إلا هلاك نفسك .
فقال له ضوء المكان :
لابد من إنشاد .
فقال له الوقاد :
قد وقع الفراق بيني وبينك من هنا وكان مرادي أن لا أفارقك حتى تدخل مدينتك وتجتمع بأبيك وأمك وقد مضى لك عندي سنة ونصف وما حصل لك مني ما يضرك فما سبب إنشادك الشعر ونحن متعبين من المشي والسهر والناس قد هجعوا يستريحون من المشي ومحتاجون إلى النوم .
فقال ضوء المكان :
لا أعود عما أنا فيه .
ثم هزته الأشجان فباح بالكتمان وأخذ ينشد هذه الأبيات :
قف بالديار وحي الأربع الدرسـا ........ ونادها فعساها أن تجيب عـسـا
فإن أجنك ليل من تـوحـشـهـا ........ أوقد من الشوق في ظلماتها قبسا
إن صل عذاريه فـلا عـجـب ........ أن يجن لسعا وأن أجتني لعسـا
يا جنة فارقتها النفس مـكـرهة ........ لولا التأسي بدار الخلد مت أسى
وأنشد أيضاً هذين البيتين :
كنـا وكـانـت الأيام خــادمة ........ والشمل مجتمع في أبهج الوطن
من لي بدار أحباب وكان بـهـا ........ ضوء المكان وفيها نزهة الزمن
فلما فرغ من شعره صاح ثلاث صيحات ثم وقع مغشياً عليه فقام الوقاد وغطاه ، فلما سمعت نزهة الزمان ما أنشده من الأشعار المتضمنة لذكر اسمها واسم أخيها ومعاهدهما بكت وصاحت على الخادم وقالت :
ويلك إن الذي أنشد أولاً أنشد ثانياً وسمعته قريباً مني ، والله إن لم تأتني به لأنبهن عليك الحاجب فيضربك ويطردك ، ولكن خذ هذه الألف دينار وائتني به برفق فإن أبى فادفع له هذا الكيس الذي فيه ألف دينار فإن أبى فاتركه واعرف مكانه وصنعته ومن أي بلاد هو وارجع بسرعة .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثانية والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة المكان أرسلت الخادم يفتش عليه وقالت له :
إذا وجدته فلاطفه وائتني به برفق .
فخرج الخادم يتأمل في الناس ويدوس بينهم وهم نائمون فلم يجد أحد مستيقظاً ، فجاء إلى الوقاد فوجده قاعداً مكشوف الرأس فدنا منه وقبض على يده وقال له :
أنت الذي كنت تنشد الشعر .
فخاف على نفسه وقال :
لا يا مقدم القوم ما هو أنا .
فقال الخادم :
لا أتركك حتى تدلني على من كان ينشد الشعر لأني لا أقدر الرجوع إلى سيدتي من دونه .
فلما سمع الوقاد كلام الخادم خاف على ضوء المكان وبكى بكاء شديداً وقال للخادم :
والله ما هو أنا وإنما سمعت إنساناً عابر سبيل ينشد فلا تدخل في خطيئتي فإني غريب وجئت من بلاد القدس .
فقال الخادم للوقاد :
قم أنت معي إلى سيدتي وأخبرها بفمك فإني ما رأيت أحداً مستيقظاً غيرك .
فقال الوقاد :
أما جئت ورأيتني في الموضع الذي أنا قاعد فيه وعرفت مكاني وما أحد يقدر في هذه الساعة ينشد شيئاً من الشعر سواء كان بعيداً أو قريباً لا تعرفه إلا مني .
ثم باس رأس الخادم وأخذ بخاطره فتركه الخادم ودار دورة وخاف أن يرجع إلى سيدته بلا فائدة فاستتر في مكان غير بعيد من الوقاد فقام الوقاد إلى ضوء المكان ونبهه وقال له :
اقعد حتى أحكي لك ما جرى .
وحكى له ما وقع فقال له :
دعني فإني لا أبالي بأحد فإن بلادي قريبة .
فقال الوقاد لضوء المكان :
لأي شيء أنت مطاوع نفسك وهواك ولا تخاف من أحد وأنا خائف على روحي وروحك ، بالله عليك أنك لا تتكلم بشيء من الشعر حتى ندخل بلدك وأنا ما كنت أظنك على هذه الحالة ، أما علمت أن زوجة الحاجب تريد زجرك لأنك أقلقتها وقد كانت ضعيفة وتعبانة من السفر ، وكم مرة قد أرسلت الخادم يفتش عليك .
فلم يلتفت ضوء المكان إلى كلام الوقاد بل صاح ثالثاً وأنشد هذه الأبيات :
تركـت كــل لائم ........ ملامه أقلـقـنـي
يعذلنـي ومـا درى ........ بابه حـرضـنـي
قال الوشاة قد سـلا ........ قلت لحب الوطـن
قالوا فمـا أحـنـه ........ قلت فما أعشقنـي
قالوا فـمـا أعـزه ........ قلت فمـا أذلـنـي
هيهات أن أتـركـه ........ لو ذقت كأس الشجن
وما أطعـت لائمـاً ........ في الهوى يعذلنـي
وكان الخادم يسمعه وهو مستخف فما فرغ من شعره إلا والخادم على رأسه فلما رآه الوقاد فر ووقف بعيداً ينظر ما يقع بينهما ، فقال الخادم :
السلام عليكم يا سيدي .
فقال ضوء المكان :
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
فقال الخادم :
يا سيدي .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
اخى الغالى
هامس
مثل ماعوتنا دائما بقلم ولمسة ايديك
ومواضيعك الجميله ومشاركاتك معنا
تدل ع انك صاحب اجمل قلم يكتب لنا
حقا انتا انسان طيب القلب
انتا المبدع
هامس
تحياتى وتقديرى لكـ
امير الاحـزان
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثالثة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم قال لضوء المكان :
يا سيدي إني أتيت إليك في هذه الليلة ثلاث مرات لأن سيدتي تطلبك عندها .
قال ضوء المكان :
ومن أين هذه الكلبة حتى تطلبني مقتها الله ومقت زوجها معها .
ونزل في الخادم شتماً فما قدر الخادم أن يرد عليه لأن سيدته أوصته أن لا يأتي به إلا بمراده هو فإن لم يأت معه يعطيه الألف دينار ، فجعل الخادم يلين له الكلام ويقول له :
يا ولد أنا ما أخطأت معك ولا جرنا عليك ، فالقصد أن تصل بخواتك الكريمة إلى سيدتنا وترجع في خير وسلامة ، ولك عندنا بشارة .
فلما سمع ذلك الكلام قام ومشى بين الناس والوقاد ماشي خلفه ، ونظر إليه وهو يقول في نفسه :
يا خسارة شبابه في الغد يشنقونه .
وما زال الوقاد ماشياً حتى قرب من مكانهم وقال :
ما أخسه إن كان يقول علي هو الذي قال لي أنشد الأشعار .
هذا ما كان من أمر الوقاد .
وأما ما كان من أمر ضوء المكان فإنه ما زال ماشياً مع الخادم حتى وصل إلى المكان ودخل الخادم على نزهة الزمان وقال لها :
قد جئت بما تطلبينه وهو شاب حسن الصورة وعليه أثر النعمة .
فلما سمعت ذلك خفق قلبها وقالت له :
أأمره أن ينشد شيئاً من الشعر حتى أسمعه ومن قرب وبعد ذلك أسأله عن اسمه ومن أي البلاد هو .
فخرج الخادم إليه وقال له :
أنشد شيئاً من الشعر حتى تسمعه سيدتي فإنها حاضرة بالقرب منك وأخبرني عن اسمك وبلدك وحالك .
فقال :
حباً وكرامة ولكن حيث سألتني عن اسمي فإنه محي ورسمي فني وجسمي بلي ولي حكاية تدون بالإبر على آفاق البصر وها أنا في منزلة السكران الذي أكثر الشراب وحلت به الأوصاب فتاه عن نفسه واحتار في أمره وغرق في بحر الأفكار .
فلما سمعت نزهة الزمان هذا الكلام بكت وزادت في البكاء والأنين وقالت للخادم :
قل له هل فارقت أحداً ممن تحب مثل أمك وأبيك ?
فسأله الخادم كما أمرته نزهة الزمان فقال ضوء المكان :
نعم فارقت الجميع وأعزهم عندي أختي التي فرق الدهر بيني وبينها .
فلما سمعت نزهة الزمان منه هذا الكلام قالت :
الله يجمع شمله بمن يحب .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الرابعة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان لما سمعت كلامه قالت :
الله يجمع شمله بمن يعشق .
ثم قالت للخادم :
قل له أن يسمعنا شيئاً من الأشعار المتضمنة لشكوى الفراق .
فقال له الخادم كما أمرته سيدته فصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات :
ليت شعري لو دروا ........ أي قلب ملـكـوا
وفـؤادي لـو درى ........ أي شعب سلكـوا
أتراهم سـلـمـوا ........ أم تراهم هلـكـوا
حار أرباب الهـوى ........ في الهوى وارتبكوا
وأنشد أيضاً هذه الأبيات :
أضحى التنائي بديلاً من تدانـينـا ........ وناب عن طيب لقيانا تجافـينـا
بنتم وبنا فما ابتلت جـوانـحـنـا ........ شوقاً إليكم ولا جفت مـآقـينـا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ........ بأن نغص فقال الدهـر آمـينـا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنـا ........ أنا بقربكم قـد عـاد يبـكـينـا
يا جنة الخلد بدلنا بسلـسـلـهـا ........ والكوثر العذاب زقوماً وغسلينـا
ثم سكب العبرات وأنشد هذه الأبيات :
لله نـذران أزر مـكـانـي ........ وفيه أختي نزهة الـزمـان
لأقضين بالصفـا زمـانـي ........ ما بين غيدي خرد حـسـان
وصوت عود مطرب الألحان ........ مع ارتضاع كأس بنت الحان
ورشف اللمى فاتر الأجفـان ........ بشط نهر سال في بسـتـان
فلما فرغ من شعره وسمعته نزهة الزمان كشفت ذيل الستارة عن المحفة ونظرت إليه فلما وقع بصرها على وجهه عرفته غاية المعرفة فصاحت قائلة :
يا أخي يا ضوء المكان .
فرفع بصره إليها فعرفها وصاح قائلاً :
يا أختي يا نزهة الزمان .
فألقت نفسها عليه فتلقاها في حضنه ووقع الاثنان مغشياً عليهما فلما رآهما الخادم على تلك الحالة تحير في أمرهما وألقى عليهما شيئاً سترهما به وصبر حتى أفاقا من غشيتهما ، وفرحت نزهة الزمان غاية الفرح وزال عنها الهم والترح وتوالت عليها المسرات وأنشدت هذه الأبيات :
الدهر أقسـم لا يزال مـكـدري ........ حنثت يمينك يا زمان فـكـفـر
السعد وافى والحبيب مسـاعـدي ........ فانهض إلى داعي السرور وشمر
ما كنت أعتقد السـوالـف جـنة ........ حتى ظفرت من اللمى بالكوثـر
فلما سمع ذلك ضوء المكان ضم أخته إلى صدره وفاضت لفرط سروره من أجفانه العبرات وأنشد هذه الأبيات :
ولقد ندمت على تفرق شملنـا ........ ندماً أفاض الدمع من أجفاني
ونذرت أن عاد الزمان يلمنـا ........ لا عدت أذكر فرقة بلسانـي
هجم السرور علي حتى أنـه ........ من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة ........ تبكين من فرح ومن أحـزان
وجلسا على باب المحفة ساعة ثم قالت :
قم ادخل المحفة واحك لي ما وقع لك وأنا أحكي لك ما وقع لي .
فقال ضوء المكان :
احكي لي أنت أولاً .
فحكت له جميع ما وقع لها منذ فارقته من الخان وما وقع لها من البدوي والتاجر وكيف اشتراها منه وكيف أخذها التاجر إلى أخيها شركان وباعها له وأن شركان أعتقها من حين اشتراها وكتب كتابه عليها ودخل بها وأن الملك إباها سمع بخبرها فأرسل إلى شركان يطلبها منه .
ثم قالت له :
الحمد لله الذي من علي بك ومثل ما خرجنا من عند والدنا سوية نرجع إليه سوية .
ثم قالت له :
إن أخي شركان زوجني بهذا الحاجب لأجل أن يوصلني إلى والدي وهذا ما وقع لي من الأول إلى الآخر ، فاحك لي أنت ما وقع لك بعد ذهابي من عندك .
فحكى لها جميع ما وقع له من الأول إلى الآخر وكيف من الله عليه بالوقاد وكيف سافر معه وأنفق عليه ماله وأنه كان يخدمه في الليل والنهار فشكرته على ذلك ثم قال لها :
يا أختي إن هذا الوقاد فعل معي من الإحسان فعلاً لا يفعله أحد مع أحد من أحبابه ولا الوالد مع ولده حتى أنه كان يجوع ويطعمني ويمشي ويركبني وكانت حياتي على يديه .
فقالت نزهة الزمان :
إن شاء الله تعالى نكافئه بما نقدر عليه .
ثم إن نزهة الزمان صاحت على الخادم فحضر وقبل يد ضوء المكان فقالت له نزهة الزمان :
خذ بشارتك يا وجه الخير لأن جمع شملي بأخي على يديك ، فالكيس الذي معك وما فيه لك ، فاذهب وائتني بسيدك عاجلاً .
ففرح الخادم وتوجه إلى الحاجب ودخل عليه ودعاه إلى سيدته فأتى به ودخل على زوجته نزهة الزمان فوجد عندها أخاها فسأل عنه فحكى له ما وقع لهما من أوله إلى آخره ثم قالت :
اعلم أيها الحاجب أنك ما أخذت جارية وإنما أخذت بنت الملك عمر النعمان فأنا نزهة وهذا أخي ضوء المكان .
فلما سمع الحاجب القصة منها تحقق ما قالته وبان له الحق الصريح وتيقن أنه صار صهر الملك عمر النعمان فقال في نفسه :
مصيري أن آخذ نيابة على قطر من الأقطار .
ثم أقبل على ضوء المكان وهنأه بسلامته وجمع شمله بأخته ، ثم أمر خدمه في الحال أن يهيئوا لضوء المكان خيمة ركوبه من أحسن الخيول فقالت له زوجته :
إنا قد قربنا من بلادنا ، فأنا أختلي بأخي ونستريح مع بعضنا ونشبع من بعضنا قبل أن نصل إلى بلادنا ، فإن لنا زمناً طويلاً ونحن متفرقان .
فقال الحاجب :
الأمر كما تريدان .
ثم أرسل إليهما الشموع وأنواع الحلاوة وخرج من عندهما وأرسل إلى ضوء المكان ثلاث بدلات من أفخر الثياب وتمشى إلى أن جاء إلى المحفة وعرف مقدار نفسه ، فقالت له نزهة الزمان :
أرسل إلى الخادم وأمره أن يأتي بالوقاد ويهيئ له حصاناً ويركبه ويرتب له سفرة طعام في الغداة والعشي ويأمره أن لا يفارقنا .
فعند ذلك أرسل الحاجب إلى الخادم وأمره أن يفعل ذلك فقال :
سمعاً وطاعة .
ثم إن الخادم أخذ غلمانه وراح يفتش على الوقاد إلى أن وجده في آخر الركب وهو يشد حماره ويريد أن يهرب ودموعه تجري على خده من الخوف على نفسه ومن حزنه على فراق ضوء المكان وصار يقول :
نصحته في سبيل الله فلم يسمع مني ، يا ترى كيف حاله .
فلم يتم كلامه إلا والخادم واقف فوق رأسه ورأى الغلمان حوله فاصفر لونه وخاف .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الخامسة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوقاد لما أراد أن يشد حماره ويهرب وصار يكلم نفسه ويقول :
يا ترى كيف حاله .
فما أتم كلامه إلا والخادم واقف فوق رأسه والغلمان حوله ، فالتفت الوقاد فرأى الخادم واقفاً على رأسه فارتعدت فرائصه وخاف وقال وقد رفع صوته بالكلام :
إنه ما عرف مقدار ما عملته معه من المعروف فأظن أنه غمز الخادم وهؤلاء الغلمان علي وأنه أشركني معه في الذنب .
وإذا بالخادم صاح عليه وقال له :
من الذي كان ينشد الأشعار ، يا كذاب ? كيف تقول لي أنا ما أنشد الأشعار ولا أعرف من أنشدها وهو رفيقك فأنا لا أفارقك من هنا إلى بغداد والذي يجري على رفيقك يجري عليك .
فلما سمع الوقاد كلامه قال في نفسه :
ما خفت منه وقعت فيه ثم أنشد هذا البيت :
كان الذي خفت أن يكونا ........ إنا إلى الله راجعـونـا
ثم إن الخادم صاح على الغلمان وقال لهم :
أنزلوه عن الحمار .
فأنزلوا الوقاد عن حماره وأتوا له بحصان فركبه ومشى صحبة الركب والغلمان حوله محدقون به وقال لهم الخادم :
إن عدم منه شعرة كانت بواحد منكم ولكن أكرموه ولا تهينوه .
فلما رأى الوقاد الغلمان حوله يئس من الحياة والتفت إلى الخادم وقال له :
يا مقدم أنا ما لي أخوة ولا أقارب وهذا الشاب لا يقرب لي ولا أنا اقرب له وإنما أنا رجل وقاد في حمام ووجدته ملقى على المزبلة مريضاً .
وصار الوقاد يبكي ويحسب في نفسه ألف حساب والخادم ماش بجانبه ولم يعرفه بشيء بل يقول له :
قد أقلقت سيدتنا بإنشادك الشعر أنت وهذا الصبي ولا تخف على نفسك .
وصار الخادم يضحك عليه سراً ، وإذا نزلوا أتاهم الطعام فيأكل هو والوقاد في آنية واحدة فإذا أكلوا أمر الخادم الغلمان أن يأتوا بقلة سكر فشرب منها ويعطيها للوقاد فيشرب لكنه لا تنشف له دمعة من الخوف على نفسه والحزن على فراق ضوء المكان وعلى ما وقع لهما في غربتهما وهما سائران والحاجب تارة يكون من باب المحفة لأجل خدمة ضوء المكان ابن الملك عمر النعمان ونزهة الزمان وتارة يلاحظ الوقاد وصارت نزهة الزمان وأخوها ضوء المكان في حديث وشكوى .
ولم يزالا على تلك الحالة وهم سائرون حتى قربوا من البلاد ولم يبق بينهم وبين البلاد إلا ثلاثة أيام فنزلوا وقت المساء واستراحوا ولم يزالوا نازلين إلى أن لاح الفجر فاستيقظوا وأرادوا أن يحملوا وإذا بغبار عظيم قد لاح فهم وأظلم الجو منه حتى صار كالليل الداجي ، فصاح الحاجب قائلاً :
أمهوا ولا تحملوا .
وركب هو ومماليكه وساروا نحو ذلك الغبار ، فلما قربوا منه بان من تحته عسكر جرار كالبحر الزخار وفيه رايات وأعلام وطبول وفرسان وأبطال فتعجب الحاجب من أمرهم ، فلما رآهم العسكر افترقت منه فرقة قدر خمسمائة فارس وأتوا إلى الحاجب هو ومن معه وأحاطوا بهم وأحاط كل خمسة من العسكر بمملوك من مماليك الحاجب فقال لهم الحاجب :
أي شيء الخبر ومن أين هذه العساكر حتى تفعل معنا هذه الأفعال ?
فقالوا له :
من أنت ومن أين أتيت وإلى أن تتوجه ?
فقال لهم :
أنا حاجب أمير دمشق الملك شركان ابن الملك عمر النعمان صاحب بغداد وأرض خراسان أتيت من عنده بالخراج والهدية متوجهاً إلى والده ببغداد .
فلما سمعوا كلامه أرخوا مناديلهم على وجوههم وبكوا وقالوا :
إن الملك عمر النعمان قد مات وما مات إلا مسموماً ، فتوجه وما عليك بأس حتى تجتمع بوزيره الأكبر الوزير دندان .
فلما سمع الحاجب ذلك الكلام بكى بكاء شديداً وقال :
واخيبتاه في هذه السفرة .
وصار يبكي هو ومن معه إلى أن اختلطوا بالعسكر فاستأذنوا له الوزير دندان فأذن له وأمر الوزير بضرب خيامه وجلس على سرير في وسط الخيمة وأمر الحاجب بالجلوس ، فلما جلس سأله عن خبره فأعلمه أنه حاجب أمير دمشق وقد جاء بالهدايا وخراج دمشق .
فلما سمع الوزير دندان ذلك بكى عند ذكر الملك عمر النعمان ، ثم قال له الوزير دندان :
أن عمر النعمان قد مات مسموماً وبسبب موته اختلف الناس فيمن يولونه بعده حتى أوقعوا القتل في بعضهم ولكن منعهم عن بعضهم الأكابر والأشراف والقضاة الأربعة واتفق جميع الناس على أن ما أشار به القضاة الأربعة لا يخالفهم فيه أحد ، فوقع الاتفاق على أننا نسير إلى دمشق ونقصد ولده الملك شركان ونجيء به ونسلطنه من مملكة أبيه ، وفيهم جماعة يريدون ولده الثاني وقالوا أنه يسمى ضوء المكان وله أخت تسمى نزهة الزمان وكانا قد توجها إلى أرض الحجاز ومضى لهما خمسن سنين ولم يقع لهما أحد على خبر .
فلما سمع الحاجب ذلك علم أن القضية التي وقعت لزوجته صحيحة فاغتم لموت الملك غماً عظيماً ولكنه فرح فرحاً شديداً وخصوصاً بمجيء ضوء المكان لأنه يصير سلطاناً ببغداد مكان أبيه .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السادسة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن حاجب شركان لما سمع من الوزير دندان ما ذكره من خبر الملك عمر النعمان تأسف إلى الوزير دندان وقال :
إن قصتكم أعجب من العجائب ، اعلم أيها الوزير الكبير أنكم حيث صادفتموني الآن أراحكما لله من التعب وقد جاء الأمر كما تشتهون على أهون سبب لأن الله رد ضوء المكان هو وأخته نزهة الزمان وانصلح الأمر وهان .
فلما سمع الوزير دندان هذا الكلام فرح به فرحاً شديداً ثم قال :
أيها الحاجب أخبرني بقصتهما وبما جرى لهما وبسبب غيابهما .
فحدثه بحديث نزهة الزمان وأنها صارت زوجته ، وأخبره بحديث ضوء المكان من أوله إلى آخره .
فلما فرغ الحاجب من حديثه أرسل الوزير دندان إلى الأمراء والوزراء وأكابر الدولة وأطلعهم على القصة ففرحوا بذلك فرحاً شديداً وتعجبوا من هذا الاتفاق .
ثم اجتمعوا كلهم وجاؤوا عند الحاجب ووقفوا في خدمته وقبلوا الأرض بين يديه ، وأقبل الوزير من ذلك الوقت على الحاجب ووقف بين يديه ، ثم إن الحاجب عمل في ذلك اليوم ديواناً عظيماً وجلس هو والوزير دندان على التخت وبين أيديهما جميع الأمراء والكبراء وأرباب المناصب على حسب مراتبهم ثم بلوا السكر في ماء الورد وشربوا ، ثم قعد الأمراء للمشورة وأعطوا بقية الجيش أذناً في أن يركبوا مع بعضهم ويتقدموا قليلاً حتى يتموا المشورة ويلحقوهم فقبلوا الأرض بين يدي الحاجب وركبوا وقدامهم رايات الحرب .
فلما فرغ الكبار من مشورتهم ركبوا ولحقوا العساكر ، ثم أرسل الحاجب إلى الوزير دندان وقال له :
الرأي عندي أن أتقدم وأسبقكم لأجل أن أهيء للسلطان مكاناً يناسبه وأعلمه بقدومكم وأنكم اخترتموه على أخيه شركان سلطاناً عليكم .
فقال الوزير دندان :
نعم الرأي الذي رأيته .
ثم نهض الوزير دندان تعظيماً له وقدم له التقاديم وأقسم عليه أن يقبلها وكذلك الأمراء والكبار وارباب المناصب قدموا له التقاديم ودعوا له وقالوا له :
لعلك تحدث السلطان ضوء المكان في أمرنا ليبقينا مستمرين في مناصبنا .
فأجابهم لما سألوه ، ثم أمر غلمانه بالسير فأرسل الوزير دندان الخيام مع الحاجب وأمر الفراشين أن ينصبوها خارج المدينة بمسافة يوم .
فامتثلوا لأمره وركب الحاجب وهو في غاية الفرح وقال في نفسه :
ما أبرك هذه السفرة .
وعظمت زوجته في عينه وكذلك ضوء المكان ثم جد في السفر إلى أن وصل إلى مكان بينه وبين المدينة مسافة يوم ثم أمر بالنزول فيه لأجل الراحة وتهيئة مكان لجلوس السلطان ضوء المكان ابن الملك عمر النعمان ثم نزل من بعيد هو ومماليكه وأمر الخدام أن يستأذنوا السيدة نزهة الزمان في أن تدخل عليهما فاستأذنوها في شأن ذلك فأذنت له فدخل عليها واجتمع بها وبأخيها وأخبرهما بموت أبيهما وأن ضوء المكان جعله الرؤساء ملكاً عليهم عوضاً عن أبيه عمر النعمان وهنأهما بالملك وفي غد يكون هو والجيش كله في هذا المكان وما بقي في الأمر أيها الملك إلا أن تفعل ما أشاروا به لأنهم كلهم اختاروك سلطاناً وأن لم تفعل سلطنوا غيرك وأنت لا تأمن على نفسكم من الذي يتسلطن غيرك فربما يقتلك أو يقع الفشل بينكما ويخرج الملك من أيديكما فأطرق برأسه ساعة من الزمان ثم قال :
قبلت هذا الأمر لأنه لا يمكن التخلي عنه .
وتحقق أن الحاجب تكلم بما فيه الرشاد ثم قال للحاجب :
يا عم وكيف أعمل مع أخي شركان ?
فقال :
يا ولدي أخوك يكون سلطان دمشق وأنت سلطان بغداد ، فشد عزمك وجهز أمرك .
فقبل منه ضوء المكان ذلك ، ثم إن الحاجب قدم إليه البدلة التي كانت مع الوزير دندان من ملابس الملوك وناوله النمشة وخرج من عنده وأمر الفراشين أن يختاروا موضعاً عالياً وينصبوا فيه خيمة واسعة عظيمة للسلطان ليجلس فيها إذا أقدم عليه المراء ، ثم أمر الطباخين أن يطبخوا طعاماً فاخراً ويحضروه ، وأمر السقائين أن ينصبوا حياض الماء ، وبعد ساعة طار الغبار حتى سد الأقطار ، ثم انكشف ذلك الغبار وبان من تحته عسكر جرار مثل البحر الزخار .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السابعة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الحاجب لما أمر الفراشين أن ينصبوا خيمة واسعة لاجتماع الناس عند الملك نصبوا خيمة عظيمة على عادة الملوك ، فلما فرغوا من أشغالهم وإذا بغبار قد طار ثم محق الهواء ذلك الغبار وبان من تحته عسكر جرار وتبين أن ذلك العسكر عسكر بغداد وخراسان ومقدمه الوزير دندان وكلهم فرحوا بسلطنة ضوء المكان وقابلهم لابساً خلعة الملك متقلداً بسيف الموكب فقدم له الحاجب الفرس فركب وسار هو ومماليكه وجميع من في الخيام مشى في خدمته حتى دخل القبة الكبيرة وجلس ووضع النمشة على فخذيه ووقف الحاجب في خدمته بين يديه ووقفت مماليكه في دهليز الخيمة وشهروا في أيديهم السيوف ثم أقبلت العساكر والجيوش وطلبوا الإذن فدخل الحاجب واستأذن لهم ضوء المكان فأمر أن يدخلوا عليه عشرة عشرة فأعلمهم الحاجب بذلك فأجابوه بالسمع والطاعة ووقف الجميع على باب الدهليز فدخل عشرة منهم فشق بهم الحاجب في الدهليز ودخل بهم على السلطان ضوء المكان .
فما رأوه هابوه فتلقاهم أحسن ملتقى ووعدهم بكل خير فهنئوه بالسلامة ودعوا له وحلفوا له الإيمان الصادقة أنهم لا يخالفون له أمراً ثم قبلوا الأرض بين يديه وانصرفوا ودخل عشرة آخرين ففعل بهم مثل ما فعل بغيرهم ولم يزالوا يدخلون عشرة بعد عشرة حتى لم يبق غير الوزير دندان ، فدخل عليه وقبل الأرض بين يديه فقام إليه ضوء المكان وأقبل عليه وقال له :
مرحباً بالوزير والوالد الكبير ،
إن فعلك فعل المشير العزيز والتدبير بيد اللطيف الخبير .
ثم إن الملك ضوء المكان قال للوزير دندان :
أؤمر العسكر بالإقامة عشرة أيام حتى أختلي بك وتخبرني بسبب قتل أبي .
فامتثل الوزير قول السلطان وقال :
لابد من ذلك .
ثم خرج إلى وسط الخيام وأمر العسكر بالإقامة عشرة أيام فامتثلوا أمره ، ثم إن الوزير أعطاها إذناً أنهم يتفرجون ولا يدخل أحد من أرباب الخدمة عند الملك مدة ثلاثة أيام فتضرع جميع الناس ودعوا لضوء المكان بدوام العز .
ثم أقبل عليه الوزير وأعلمه بالذي كان فصبر إلى الليل ودخل على أخته نزهة الزمان وقال لها :
أعلمت بسبب قتل أبي ولم نعلم بسببه كيف كان ?
فقالت :
لم أعلم سبب قتله .
ثم إنها ضربت لها ستارة من حرير وجلس ضوء المكان خارج الستارة وأمر بإحضار الوزير دندان فحضر بين يديه فقال له :
أريد أن تخبرني تفصيلاً بسبب قتل أبي الملك عمر النعمان .
قال الوزير دندان :
لما أتى الملك عمر النعمان من الصيد والقنص وجاء إلى المدينة سأل عنكما فلم يجدكما فعلم أنكما قد قصدتما الحج فاغتم لذلك وازداد به الغيظ وضاق صدره وأقام نصف سنة وهو يستخبر عنكما كل شارد ووارد فلم يخبره أحد عنكما .
فبينما نحن بين يديه يوماً من الأيام بعدما مضى لكما سنة كاملة من تاريخ فقدكما وإذا بعجوز عليها آثار العبادة قد وردت علينا ومعها خمس جوار نهد أبكار كأنهن الأقمار وحوين من الحسن والجمال ما يعجز عن وصفه اللسان ، ومع كمال حسنهن يقرأن القرآن ويعرفن الحكمة وأخبار المتقدمين فاستأذنت تلك العجوز في الدخول على الملك فأذن لها فدخلت عليه وقبلت الأرض بين يديه وكنت أنا جالساً بقرب الملك فلما دخلت عليه قربها إليه لما رأى عليها آثار الزهد والعبادة ، فلما استقرت العجوز عنده أقبلت عليه وقالت له :
اعلم أيها الملك أن معي خمس جوار ما ملك أحد من الملوك مثلهن لأنهن ذوات عقل وجمال وحسن وكمال يقرأن القرآن والروايات ويعرفن العلوم وأخبار الأمم السالفة وهن بين يديك وواقفات في خدمتك يا ملك الزمان وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان .
فنظر المرحوم والدك إلى الجواري من أخبار الناس الماضين والأمم السابقين .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثامنة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال للملك ضوء المكان :
فتقدمت واحدة منهن وقبلت الأرض بين يديه وقالت :
اعلم أيها الملك أنه ينبغي لذي الأدب أن يتجنب الفضول ويتحلى بالفضائل وأن يؤدي الفرائض ويبتعد عن الكبائر ويلازم ذلك ملازمة من لو أفرد عنه لهلك وأساس الأدب مكارم الأخلاق واعلم أن أسباب المعيشة طلب الحياة والقصد من الحياة عبادة الله ، فينبغي أن تحسن خلقك مع الناس وأن لا تعدل عن تلك السنة فإن أعظم الناس خطراً أحوجهم إلى التدبير والملوك أحوج إليه من السوقة لأن السوقة قد تفيض في الأمور من غير نظر في العافية ، وأن تبدل في سبيل الله نفسك ومالك واعلم أن العدو خصم تخصيمه بالحجة وتحرز منه ، وأما الصديق فليس بينك وبينه قاض يحكم غير حسن الخلق .
فاختر صديقك لنفسك بعد اختياره فإن كان من الإخوان الآخرة فليكن محافظاً على أتباع الظاهر من الشعر عارفاً بباطنه على حسن الإمكان وإن كان من إخوان الدنيا فليكن حراً صادقاً ليس بجاهل ولا شرير فإن الجاهل أهل لأن يبتعد منه أبوانا والمنافق لا يكون صديقاً لأن الصديق مأخوذ من الصدق الذي يكون ناشئاً عن صميم القلب فكيف به إذا أظهر الكذب على اللسان ، واعلم أن أتباع الشرع ينفع صاحبه فتودد لأخيك إذا كان بهذه الصفة ولا تقطعه وإن ظهر لك منه ما تكره فإنه ليس كالمرأة يمكن طلاقها ومراجعتها بل قلبه كالزجاج إذا تصدع لا ينجبر ، ولله در القائل :
احرص على صون القلوب من الأذى ........ فرجوعها بعد التـنافـر يعـسـر
إن القـلـوب إذا تـنـافـر ودهـا ........ مثل الزجاجة كسرهـا لا يجـبـر
وقالت الجارية في آخر كلامها وهي تشير إلينا :
إن أصحاب العقول قالوا :
خير الإخوان أشدهم في النصيحة خير الأعمال أجملها عاقبة وخير الثناء ما كان على أفواه الرجال .
وقد قيل :
لا ينبغي للعبد أن يغفل عن شكر الله خصوصاً على نعمتين العافية والعقل .
وقيل :
من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهرته ، ومن عظم صغائر المصائب ابتلاه الله بكبارها ، ومن أطاع الهوى ضيع الحقوق ومن أطاع الواشي ضيع الصديق ، ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه ومن بالغ في الخصومة أثم ومن لم يحذر الحيف لم يأمن السيف . وها أنا أذكر لك شيئاً من آداب القضاة .
اعلم أيها الملك أنه لا ينفع حكم بحق إلا بعد التثبيت وينبغي للقاضي أن يجعل الناس في منزلة واحدة حتى لا يطمع شريف في الجور ولا ييأس ضعيف من العدل وينبغي أيضاً أن يجعل البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حرماً أو حرم حلالاً ، وما شككت فيه اليوم فراجع فيه عقلك وتبين به رشدك لترجع فيه إلى الحق فالحق فرع والرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل ، ثم اعرف الأمثال وافقه المقال وسو بين الأخصام في الوقوف وليكن نظرك على الحق موقوفاً وفوض أمرك إلى الله عز وجل واجعل البينة على من ادعى فإن حضرت بينته أخذت بحقه وإلا فحلف المدعى عليه وهذا حكم الله ، واقبل شهادة عدو المسلمين بعضهم على بعض ، فإن الله تعالى أمر الحكام أن تحكم بالظاهر وهو يتولى السرائر ، ولزاماً على القاضي أن يتوفى الألم والجوع وأن يقصد بقضائه بين الناس وجه الله تعالى فإن من خلصت نيته وأصلح ما بينه وبين نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس .
وقال الزهري :
ثلاث إذا كن في قاض :
كان منعزلاً إذا أكرم اللئام وأحب المحامد وكره العزل .
وقد عزل عمر بن عبد العزيز قاضياً فقال له :
لم عزلتني ?
فقال عمر :
قد بلغني عنك أن مقالك أكبر من مقامك .
حكي أن الإسكندر قال لقاضيه :
إني وليتك منزلة واستودعتك فيها روحي وعرضي ومروءتي فاحفظ هذه المنزلة لنفسك وعقلك .
وقال لطباخه :
إنك مسلط على جسمي فارفق بنفسك فيه .
وقال لكاتبه :
إنك متصرف في عقلي فاحفظني فيما تكتبه عني .
ثم تأخرت الجارية الأولى وتقدمت الثانية .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة التاسعة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
ثم تأخرت الجارية الأولى وتقدمت الثانية وقبلت الأرض بين يدي الملك والدك سبع مرات ثم قالت :
قال لقمان لابنه :
ثلاثة لا تعرف إلا في ثلاثة مواطن لا يعرف الحليم إلا عند الغضب ولا الشجاع إلا عند الحرب ولا أخوك إلا عند حاجتك إليه .
وقيل :
إن الظالم نادم وإن مدحه الناس والمظلوم سليم وإن ذمه الناس .
وقال الله تعالى :
ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم .
وقال عليه الصلاة والسلام :
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
واعلم أيها الملك أن أعجب ما في الإنسان قلبه لأن به زمام أمره فإن هاج به الطمع أهلكه الحرص وإن ملكه الأسى قتله الأسف وإن عظم عنده الغضب اشتد به العطب وإن سعد بالرضى أمن من السخط وإن ناله الخوف شغله الحزن وإن أصابته مصيبة ضمنه الجزع وإن استفاد مالاً ربما اشتغل به عن ذكر ربه ، وإن أغصته فاقة أشغله الهم وإن أجهده الجذع أقعده الضعف ، فعلى كل حالة لا صلاح له إلا بذكر الله واشتغاله بما فيه تحصيل معاشه وصلاح معاده .
وقيل لبعض العلماء :
من أشر الناس حالاً ?
قال :
من غلبت شهوته مروءته وبعدت في المعالي همته فاتسعت معرفته وضاقت معذرته .
وما أحسن ما قاله قيس :
وإني لأغني الناس عن متكـلـف ........ يرى الناس ضلالاً وما هو مهتدي
وما المال والأخلاق إلا مـعـارة ........ فكل بما يخفيه في الصدر مرتدي
إذا ما أتيت الأمر من غير بـابـه ........ ضللت وإذ تدخل من الباب تهتدي
ثم إن الجارية قالت :
وأما أخبار الزهد فقد قال هشام بن بشر :
قلت لعمر بن عبيد :
ما حقيقة الزهد ?
فقال لي :
قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :
الزاهد من لم ينس القبر والبلا وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد عداً من أيامه وعد نفسه في الموتى .
وقيل :
إن أبا ذر كان يقول :
الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلي من الصحة .
فقال بعض السامعين :
رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول :
من أتكل على حسن الاختيار من الله تعالى رضي بالحالة التي اختارها الله له .
وقال بعض الثقات :
صل بنا ابن أبي أو في صلاة الصبح فقراً يا أيها المدثر حتى بلغ قوله تعالى فإذا نقر في الناقور فخر ميتاً .
ويروى أن ثابتاً البناني بكى حتى كادت أن تذهب عيناه فجاؤوا برجل يعالجه قال :
أعالجه بشرط أن يطاوعني .
قال ثابت :
في أي شيء ?
قال الطبيب :
في أن لا تبكي .
قال ثابت :
فما فضل عيني أن لم تبكيا .
وقال رجل لمحمد بن عبد الله :
أوصني .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
وقالت الجارية الثانية لوالدك المرحوم عمر النعمان :
وقال رجل لمحمد بن عبد الله :
أوصني .
فقال :
أوصيك أن تكون في الدنيا مالكاً زاهداً وفي الآخرة مملوكاً طامعاً .
قال :
وكيف ذلك ?
قال :
الزاهد في الدنيا يملك الدنيا والآخرة .
وقال غوث بن عبد الله :
كان إخوان في بني إسرائيل قال أحدهما للآخر :
ما أخوف عمل عملته ?
قال له :
إني مررت ببيت فراخ فأخذت منها واحدة ورميتها في ذلك البيت ولكن بيت الفراخ التي أخذها منه فهذا أخوف عمل عملته . فما أخوف ما عملته أنت ?
قال :
أما أنا فأخوف عمل أعمله أني إذا قمت للصلاة أخاف أن أكون لا أعمل ذلك إلا للجزاء .
وكان أبوهما يسمع كلامهما فقال :
اللهم إن كانا صادقين فاقبضهما إليك .
فقال بعض العقلاء :
إن هذين من أفضل الأولاد .
وقال سعيد بن صبر :
صحبت ابن عبيد فقلت له :
أوصني .
فقال :
احفظ عني هاتين الخصلتين :
أن لا تشرك بالله شيئاً وأن لا تؤذي من خلق الله أحداً ، وأنشد هذين البيتين :
كن كيف شئت فإن الله ذو كرم ........ وأنف الهموم فما في الأمر من بأس
إلا اثنتين فما تـقربهـما ابـداً ........ الشرك بالله والإضرار بـالـنـاس
وما أحسن قول الشاعر :
إذا أنت لم يصحبك زاد من التقى ........ ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثلـه ........ وإنك لم ترصد كما كان أرصدا
ثم تقدمت الجارية الثالثة بعد أن تأخرت الثانية وقالت :
إن باب الزهد واسع جداً ولكن ذكر بعض ما يحضرني فيه عن السلف الصالح .
قال بعض العارفين :
أنا أستبشر بالموت ولا أتيقن فيه راحة فيراني علمت أن الموت يحول بين المرء وبين الأعمال فأرجو مضاعفة العمل الصالح وانقطاع العمل السيء ، وكان عطاء السلمي إذا فرغ من وصيته انتفض وارتعد وبكى بكاء شديداً فقيل له :
لم ذلك ?
فقال :
إني أتريد أن أقبل على أمر عظيم وهو الانتصاب بين يدي الله تعالى للعمل بمقتضى الوصية .
ولذلك كان علي زين العابدين بن الحسين يرتعد إذا قام للصلاة ، فسئل عن ذلك فقال :
أتدرون لمن أقوم ولمن أخاطب ?
وقيل كان بجانب سفيان الثوري رجل ضرير فإذا كان يوم القيامة آتي بأهل القرآن فيميزون بعلامة مزيد الكرامة عمن سواهم .
وقال سفيان :
لو أن النفس استقرت في القلب كما ينبغي لطار فرحاً وشوقاً إلى الجنة وحزناً وخوفاً من النار .
وعن سفيان الثوري أنه قال :
النظر إلى وجه الظالم خطيئة .
ثم تأخرت الجارية الثالثة وتقدمت الجارية الرابعة وقالت :
وها أنا أتكلم ببعض ما يحضرني من أخبار الصالحين :
روي أن بشر الحافي قال :
سمعت خالداً يقول :
إياكم وسرائر الشرك .
فقلت له :
وما سرائر الشرك ?
قال :
أن يصلي أحدكم فيطيل ركوعه وسجوده حتى يلحقه الحدب .
وقال بعض العارفين :
فعل الحسنات يكفر السيئات .
وقال بعض العارفين :
التمست من بشر الحافي شيئاً من سرائر الحقائق فقال :
يا بني هذا العلم لا ينبغي أن نعلمه كل أحد فمن كل مائة خمسة مثل زكاة الدرهم .
قال إبراهيم بن أدهم :
فاستحليت كلامه واستحسنته فبينما أنا أصلي وإذا ببشر يصلي ، فقمت وراءه أركع إلى أن يؤذن المؤذن فقام رجل رث الحالة وقال :
يا قوم احذروا الصدق الضار ولا بأس بالكذب النافع وليس مع الاضطرار اختيار ولا ينفع الكلام عند العدم كما لا يضر السكوت عند وجود الوجود .
وقال إبراهيم :
رأيت بشر سقط منه دانق فقمت إليه وأعطيته درهماً فقال :
لا آخذه .
فقلت :
إنه من خالص الحلال .
فقال :
أنا لست أستبدل نعم الدنيا بنعم الآخرة .
ويروى أن أخت بشر الحافي قصدت أحمد بن حنبل .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الواحدة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
إن الجارية قالت لوالدك :
إن أخت بشر الحافي قصدت أحمد بن حنبل فقالت له :
يا إمام الدين إنا قوم نغزل بالليل ونشتغل بمعاشنا في النهار وربما تمر بنا مشاعل ولاة بغداد ونحن على السطح نغزل في ضوئها فهل يحرم علينا ذلك ?
قال لها :
من أنت ?
قالت :
أخت بشر الحافي .
فقال :
يا أهل بشر لا أزال أستنشق الورع من قلوبكم .
وقال بعض العارفين :
إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عليه باب العمل .
وكان ملك بن دينار إذا مر في السوق ورأى ما يشتهيه يقول :
يا نفس اصبري فلا أوافقك على ما تريدين .
وقال أيضاً :
سلامة النفس في مخالفتها وبلاؤها في متابعتها .
وقال منصور بن عمار :
حججت حجة فقصدت مكة من طريق الكوفة وكانت ليلة مظلمة وإذا بصارخ يصرخ في جوف الليلة ويقول :
إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لي ما فرط مني فإني قد عصيتك بجهلي .
فلما فرغ من دعائه تلا هذه الآية :
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة .
وسمعت سقطة لم أعرف لها حقيقة فمضيت ، فلما كان الغد مشينا إلى مدرجنا وإذا بجنازة خرجت وراءها عجوز ذهبت قوتها فسألتها عن الميت فقالت :
هذه جنازة رجل كان مر بنا البارحة وولدي قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله تعالى فانفطرت مرارة ذلك الرجل فوقع ميتاً .
ثم تأخرت الجارية الرابعة وتقدمت الجارية الخامسة وقالت :
ها أنا أذكر بعض ما يحضرني من أخبار السلف الصالح :
كان مسلمة بن دينار يقول :
عند تصحيح الضمائر نغفر الصغائر والكبائر ، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتاه الفتوح وقال :
كل نعمة لا تقرب إلى الله فهي بلية وقليل الدنيا يشغل عن كثير الآخرة وكثيرها ينسيك قليلها .
وسئل أبو حازم :
من أيسر الناس ?
فقال :
رجل امضى عمره في طاعة الله .
قال :
فمن أحمق الناس ?
قال :
رجل باع آخرته بدنيا غيره .
وروي أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين قال :
رب إني لما أنزلت لي من خير فقير .
فسأل موسى ربه ولم يسأل الناس وجاءت الجاريتان فسقى لهما ولم تصدر الرعاء فلما رجعتا أخبرتا أباهما شعيباً فقال لهما :
لعله جائع .
ثم قال لإحداهن :
ارجعي إليه وادعيه .
فلما أتته غطت وجهها وقالت :
إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا .
فكره موسى ذلك وأراد أن لا يتبعها وكانت امرأة ذات عجز فكانت الريح تضرب ثوبها فيظهر لموسى عجزها فيغض بصره ثم قال :
لهاك كوني خلفي .
فمشت خلفه حتى دخل على شعيب والعشاء مهيأ .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثانية بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
وقالت الجارية الخامسة لوالدك :
فدخل موسى على شعيب عليهما السلام والعشاء مهيأ فقال شعيب لموسى :
يا موسى إني أريد أن أعطيك أجر ما سقيت لهما .
فقال موسى :
أنا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بما على الأرض من ذهب وفضة .
فقال شعيب :
يا شاب ولكن أنت ضيفي وإكرام الضيف عادتي وعادة آبائي بإطعام الطعام .
فجلس موسى فأكل ، ثم إن شعيباً استأجر موسى ثماني حجج أي ثماني سنين وجعل أجرته على ذلك تزويجه إحدى ابنتيه وكان عمل موسى لشعيب صداقاً لها كما قال تعالى حكاية عنه :
أني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تؤجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك .
وقال رجل لبعض أصحابه وكان له مدة لم يره :
إنك أوحشتني أني ما رأيتك منذ زمان .
قال :
اشتغلت عنك بابن شهاب أتعرفه ?
قال :
نعم هو جاري منذ ثلاثين سنة إلا أنني لم أكلمه .
قال له :
إنك نسيت الله فنسيت جارك ولو أحببت الله لأحببت جارك ، أما علمت أن للجار علي حقاً كحق القرابة ?
وقال حذيفة :
دخلنا مكة مع إبراهيم بن أدهم وكان شقيق البلخي قد حج في تلك السنة فاجتمعنا في الطواف فقال إبراهيم لشقيق :
ما شأنكم في بلادكم ?
فقال شقيق :
إننا إذا رزقنا أكلنا وإذا جعنا صبرنا .
فقال :
كذا تفعل كلاب بلخ ولكننا إذا رزقنا آثرنا وإذا جعنا شكرنا .
فجلس شقيق بين يدي إبراهيم قال له :
أنت أستاذي .
وقال محمد بن عمران :
سأل رجل حاتماً الأصم فقال له :
ما أمرك في التوكل على الله تعالى ?
قال :
على خصلتين ، علمت أن رفاقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي به وعلمت أني لم أخلق من غير علم الله فاستحييت منه .
ثم تأخرت الجارية الخامسة وتقدمت العجوز وقبلت الأرض بين يدي والدك تسع مرات وقالت :
قد سمعت أيها الملك ما تكلم به الجميع في باب الزهد وأنا تابعة لهن فاذكر بعض ما بلغني عن أكابر المتقدمين .
قيل :
كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقسم الليل ثلاثة أقسام :
الثلث الأول للعلم والثاني للنوم والثالث للتهجد .
وكان الإمام أبو حنيفة يحيي نصف الليل فأشار إليه إنسان وهو يمشي وقال الآخران : إن هذا يحيي الليل كله .
فلما سمع ذلك قال :
إني أستحي من الله أن أوصف بما ليس في .
فصار بعد ذلك يحيي الليل كله .
وقال الربيع :
كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان سبعين مرة كل ذلك في الصلاة .
وقال الشافعي رضي الله عنه :
ما شبعت من خبز الشعير عشر سنين لأن الشبع يقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن القيام .
وروي عن عبد الله ومحمد السكري أنه قال :
كنت أنا وعمرة نتحدث فقال لي :
ما رأيت أروع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي .
واتفق أنني خرجت أنا والحرث بن لبيب الصغار وكان الحرث تلميذ المزني وكان صوته حسناً فقرأ قوله تعالى :
هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون .
فرأيت الإمام الشافعي تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطراباً شديداً وخر مغشياً عليه فلما أفاق قال :
أعوذ بالله من مقام الكذابين وأعراض الغافلين اللهم لك خشعت قلوب العارفين ، اللهم هب لي غفران ذنوبي من جودك وجملني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك .
ثم قمت وانصرفت .
وقال بعض الثقات :
لما دخلت بغداد كان الشافعي بها فجلست على الشاطئ لأتوضأ للصلاة إذ مر بي إنسان فقال لي :
يا غلام أحسن وضوءك يحسن الله إليك في الدنيا والآخرة .
فالتفت وإذا برجل يتبعه جماعة فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفوا أثره فالتفت إلي وقال :
هل لك من حاجة ?
فقلت :
نعم تعلمني مما علمك الله تعالى .
فقال :
اعلم أن من صدق الله ونجا ومن نجا ومن أشفق على دينه سلم من الردى ومن زهد في الدنيا قرت عيناه غداً أفلا أزيدك ?
قلت :
بلى .
قال :
كن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً واصدق في جميع أمورك تنج مع الناجين .
ثم مضى فسألت عنه فقيل لي :
هذا الإمام الشافعي .
وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول :
وددت أن الناس ينتفعون بهذا العلم على أن لا ينسب إلي منه شيء .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثالثة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
قالت العجوز لوالدك :
كان الإمام الشافعي يقول :
وددت أن الناس ينتفعون بهذا العلم على أن لا ينسب إلي منه شيء .
وقال :
ما ناظرت أحداً إلا أحببت أن يوفقه الله تعالى للحق ويعينه على إظهاره وما ناظرت أحداً قط إلا لأجل إظهار الحق وما أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه .
وقال رضي الله تعالى عنه :
إذا خفت على علمك العجب فاذكر رضا من تطلب وفي أي نعيم ترغب ومن أي عقاب ترهب .
وقيل لأبي حنيفة :
إن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور قد جعلك قاضياً ورسم لك بعشرة آلاف درهم فما رضي ، فلما كان اليوم الذي توقع أن يؤتى إليه فيه بالمال صلى الصبح ثم تغشى بثوبه فلم يتكلم ثم جاء رسول أمير المؤمنين بالمال فلما دخل عليه وخاطبه لم يكلمه فقال له رسول الخليفة :
إن هذا المال حلال .
فقال :
اعلم أنه حلال لي ولكني أكره أن يقع في قلبي مودة الجبابرة .
فقال له :
لو دخلت إليهم وتحفظت من ودهم .
قال :
هل آمن أن ألج البحر ولا تبتل ثيابي .
من كلام الشافعي رضي الله عنه :
ألا يا نفس إن ترضي بقولي ........ فأنت عزيزة أبـداً غـنـية
دعي عنك المطامع والأماني ........ فكم أمنية جلبـت غـنـية
ومن كلام سفيان النوري فيما أوصى به علي بن الحسين السلمي :
عليك بالصدق وإياك والكذب والخيانة والرياء فإن العمل الصالح يحيطه الله بخصلة من هذه الخصال ولا تأخذ دينك إلا عمن هو مشفق على دينه وليكن جليسك من يزهدك في الدنيا وأكثر ذكر الموت وأكثر الاستغفار واسأل الله السلامة فيما بقي من عمرك وانصح كل مؤمن إذا سألك عن أمر دينه وإياك أن تخون مؤمناً فإن من خان مؤمناً فقد خان الله ورسوله ، وإياك الجدال والخصام ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك تكن سليماً وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر تكن حبيب الله وأحسن سريرتك يحسن الله علانيتك واقبل المعذرة ممن اعتذر إليك ولا تبغض أحداً من المسلمين وصل من قطعك واعف عمن ظلمك تكن رفيق الأنبياء وليكن أمرك مفوضاً إلى الله في السر والعلانية واخش الله من خشية من قد علم أنه ميت ومبعوث وسائر إلى الحشر والوقوف بين يدي الجبار واذكر مصيرك إلى إحدى الدارين أما إلى جنة عالية وأما إلى نار حامية .
ثم إن العجوز جلست إلى جانب الجواري فلما سمع والدك المرحوم كلامهن علم أنهن أفضل أهل زمانهن ورأى حسنهن وجمالهن وزيادة أدبهن فأواهن إليه وأقبل على العجوز فأكرمها وأخلى لها هي وجواريها القصر الذي كانت فيه الملكة إبريزة بنت ملك الروم ونقل إليهن ما يحتجن إليه من الخيرات فأقامت عنده عشرة أيام وكلما دخل عليها يجدها معتكفة على صلاتها وقيامها في ليلها وصيامها فوقع في قلبه محبتها وقال لي :
يا وزير إن هذه العجوز من الصالحات وقد عظمت في قلبي مهابتها .
فلما كان اليوم الحادي عشر اجتمع بها من جهة دفع ثمن الجواري إليها فقالت له :
أيها الملك اعلم أن ثمن هذه الجواري فوق ما يتعامل الناس به فإني ما أطلب فيهن ذهباً ولا فضة ولا جواهر قليلاً كان ذلك .
فلما سمع والدك كلامها تحير وقال :
أيها السيدة وما ثمنهن ?
قالت :
ما أبيعهن لك إلا بصيام شهر كامل تصوم نهاره وتقوم ليله لوجه الله تعالى فإن فعلت ذلك فهن لك في قصرك تصنع بهن ما شئت .
فتعجب الملك من كمال صلاحها وزهدها وورعها وعظمت في عينه وقال نفعنا الله بهذه المرأة الصالحة ثم اتفق معها على أن يصوم الشهر كما اشترطته عليه .
فقالت :
وأنا أعينك بدعوات أدعو بهن لك فائتني بكوز ماء .
فأخذته وقرأت عليه وهممت وقعدت ساعة تتكلم بكلام لا تفهمه ولا تعرف منه شيئاً ، ثم غطته بخرقة وختمته وناولته لوالدك وقالت له :
إذا صمت العشرة الأولى فأفطر في الليلة الحادية عشرة على ما في هذا الكوز فإنه ينزع حب الدنيا من قلبك ويملأه نوراً وإيماناً وفي غد أخرج إلى أخواني وهم رجال الغيب فإني اشتقت إليهم ثم أجيء إليك إذا مضت العشرة الأولى .
فأخذ والدك الكوز ثم نهض وأفرد له خلوة في القصر ووضع الكوز فيها وأخذ مفتاح الخلوة في جيبه فلما كان النهار صام السلطان وخرجت العجوز إلى حال سبيلها .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الرابعة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
فلما كان النهار صام وخرجت العجوز في حال سبيلها وأتم الملك صوم العشرة أيام وفي اليوم الحادي عشر فتح الكوز وشربه فوجد له في فؤاده فعلاً جميلاً وفي العشرة أيام الثانية من الشهر جاءت العجوز ومعها حلاوة في ورق أخضر يشبه ورق الشجر فدخلت على والدك وسلمت عليه فلما رآها قام وقال لها :
مرحباً بالسيدة الصالحة .
فقالت له :
أيها الملك أن رجال الغيب يسلمون عليك لأني أخبرتهم عنك فرحوا بك وأرسلوا معي هذه الحلاوة وهي من حلاوة الآخرة فأفطر عليها في آخر النهار .
ففرح والدك فرحاً زائداً وقال :
الحمد لله الذي جعل لي إخواناً من رجال الغيب .
ثم شكر العجوز وقبل يديها وأكرمها وأكرم الجواري غاية الإكرام ثم مضت مدة عشرين يوماً وأبوك صائم وعند رأس العشرين يوماً أقبلت عليه العجوز وقالت :
أيها الملك اعلم أني أخبرت رجال الغيب بما بيني وبينك من المحبة وأعلمتهم بأني تركت الجواري عندك ، ففرحوا حيث كانت الجواري عند ملك مثلك لأنهم إذا رأوهن يبالغون في الدعاء المستجاب فأريد أن أذهب بهن إلى رجال الغيب لتحصيل نفحاتهم لهن وربما أنهن لا يرجعن إليك إلا ومعهن كنز من كنوز الأرض حتى أنك بعد تمام صومك تشتغل بكسوتهن وتستعين بالمال الذي يأتيك به على أغراضك .
فلما سمع والدك كلامها شكرها على ذلك وقال لها :
لولا أني أخشى مخالفتي لك ما رضيت بالكنز ولا بغيره ولكن متى تخرجن بهن ?
فقالت له :
في الليلة السابعة والعشرين فأرجع بهن إليك في رأس الشهر وتكون أنت قد أوفيت الصوم وحصل استبراؤهن وصرن لك وتحت أمرك ، والله أن كل جارية ثمنها أعظم من ملكك مرات .
فقال لها :
وأنا أعرف ذلك أيتها السيدة الصالحة .
فقالت له :
بعد ذلك ولا بد أن ترسل معهن من يعز عليك من القصر حتى تجد الأنس ويلتمس البركة من رجال الغيب .
فقال لها :
عندي جارية رومية اسمها صفية ورزقت منها بولدين أنثى وذكر ولكنهما فقدا منذ سنتين فخذيها معهن لأجل أن تحصل البركة .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الخامسة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان :
لعل رجال الغيب يدعون الله لها بأن يرد عليها ولديها ويجمع شملنا بهما .
فقالت العجوز :
نعم ما قلت وكان ذلك أعظم غرضها .
ثم إن والدك أخذ في تمام صيامه ، فقالت له :
يا ولدي إني متوجهة إلى رجال الغيب فأحضر لي صفية .
فدعا بها في ساعتها فسلمها إلى العجوز فخلطتها بالجواري ، ثم دخلت العجوز مخدعها وخرجت للسلطان بكأس مختوم وناولته له وقالت :
إذا كان يوم الثلاثين فادخل الحمام ثم اخرج منه وادخل خلوة من الخلاوي التي في قصرك واشرب هذا الكأس وثم فقد نلت ما تطلب والسلام مني عليك .
فعند ذلك فرح الملك وشكرها وقبل يدها فقالت له :
أستودعك الله .
ثم قال لها :
ومتى أراك أيتها السيدة الصالحة فإني أود أن لا أفارقك ?
فدعت له وتوجهت ومعها الجواري والملكة صفية وقعد الملك بعدها ثلاثة أيام ثم قام ودخل الحمام وخرج منه إلى الخلوة التي في القصر وأمر أن لا يدخل عليه أحد ورد الباب عليه ثم شرب الكأس ونام ونحن قاعدون في انتظاره إلى آخر النهار فلم يخرج من الخلوة قلنا :
لعله تعبان من الحمام ومن سهر الليل وصيام النهار فبسبب ذلك نام .
فانتظرناه ثاني يوم فلم يخرج فوقفنا بباب الخلوة وأعلنا برفع الصوت لعله ينتبه ويسأل عن الخبر فلم يحصل منه صوت ، فخلعنا الباب ودخلنا عليه فوجدناه قد تمزق لحمه وتفتت عظمه .
فلما رأيناه على هذه الحالة عظم علينا ذلك وأخذنا الكأس فوجدنا في غطائه قطعة من ورق مكتوباً فيها :
من أساء لا يستوحش منه وهذا جزاء من يحتال على بنات الملوك ويفسدهن والذي نعلم به كل من وقف على هذه الورقة .
إن شركان لما جاء بلادنا أفسد علينا الملكة إبريزة وما كفاه ذلك حتى أخذها من عندنا وجاء بها إليكم ثم أرسلها مع عبد أسود فقتلها ووجدناها مقتولة في الخلاء مطروحة على الأرض ، فهذا ما هو فعل الملوك ، وهذا جزاء من يفعل هذا الفعل إلا ما حل به ، وأنتم لا تتهموا أبداً بقتله ، ما قتله إلا العاهرة الشاطرة التي اسمها ذات الدواهي ، وها أنا أخذت زوجة الملك صفية ومضيت بها إلى والدها أفريدون ملك القسطنطينية ، ولا بد أن نغزوكم ونقتلكم ونأخذ منكم الديار فتهلكون عن آخركم ولا يبقى منكم ديار ولا من ينفخ النار إلا من يعبد الصليب والزنار .
فلما قرأنا هذه الورقة علمنا أن العجوز خدعتنا وتمت حيلتها علينا فعند ذلك صرخنا ولطمنا على وجوهنا وبكينا فلما يفدنا البكاء شيئاً ، واختلفت العساكر فيمن يجعلونه سلطاناً عليهم فمنهم من يريدك ومنهم من يريد أخاك شركان ولم نزل في هذا الاختلاف مدة شهر ، ثم جمعنا بعضنا وأردنا أن نمضي إلى أخيك شركان فسافرنا إلى أن وجدناك ، وهذا سبب موت الملك عمر النعمان .
فلما فرغ الوزير من كلامه بكى ضوء المكان هو وأخته نزهة الزمان وبكى الحاجب أيضاً .
ثم قال الحاجب لضوء المكان :
أيها الملك أن البكاء لا يفيدك شيئاً ولا يفيدك إلا أن تشد قلبك وتقوي عزمك وتؤيد مملكتك ومن خلف ذلك .
فعند ذلك سكت عن بكائه وأمر بنصب السرير خارج الدهليز ، ثم أمر أن يعرضوا عليه العساكر ووقف الحاجب بجانبه والسلحدراية من ورائه ووقف الوزير دندان قدامه ووقف كل واحد من الأمراء وأرباب الدولة في مرتبته ، ثم إن الملك ضوء المكان قال للوزير دندان :
أخبرني بخزائن أبي .
فقال الوزير دندان :
سمعاً وطاعة .
وأخبره بخزائن الأموال وبما فيها من الذخائر والجواهر وعرض عليه ما في خزانته من الأموال فأنفق على العساكر وخلع على الوزير دندان خلعة سنية ، وقال له :
أنت في مكانك .
فقبل الأرض بين يديه ودعا له بالبقاء ثم خلع على الأمراء ثم إنه قال للحاجب :
أعرض علي الذي معك من خراج دمشق .
فعرض عليه صناديق المال والتحف والجواهر فأخذها وفرقها على العساكر .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السادسة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن ضوء المكان أمر الحاجب أن يعرض عليه ما أتى به من خراج دمشق فعرض عليه صناديق المال والتحف والجواهر فأخذها وفرقها على العساكر ولم يبق منها شيئاً ، فقبل الأمراء الأرض بين يدي ضوء المكان ودعوا له بطول البقاء وقالوا :
ما رأينا ملكاً يعطي مثل هذه العطايا .
ثم إنهم مضوا إلى خيامهم فلما أصبحوا أمرهم بالسفر فسافروا ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع أشرفوا على بغداد فدخلوا المدينة فوجدوها قد تزينت ، وطلع السلطان ضوء المكان قصر أبيه وجلس على السرير ووقف أمراء العسكر والوزير دندان وحاجب دمشق بين يديه فعند ذلك أمر كاتب السر أن يكتب كتاباً إلى أخيه شركان ويذكر فيه ما جرى من الأول إلى الآخر ويقول في آخره :
وساعة وقوفك على هذا المكتوب تجهز أمرك وتحضر بعسكرك حتى تتوجه إلى غزو الكفار ونأخذ منهم الثأر ونكشف العار .
ثم طوى الكتاب وختمه وقال للوزير دندان :
ما يتوجه بهذا الكتاب إلا أنت ولكن ينبغي أن تتلطف به في الكلام وتقول له :
إن أردت ملك أبيك فهو لك وأخوك نائباً عنك في دمشق كما أخبرنا بذلك .
فنزل الوزير دندان من عنده وتجهز للسفر ، ثم إن ضوء المكان أمر أن يجعلوا للوقاد مكاناً حسناً ويفرشوه بأحسن الفرش ، وذلك الوقاد له حديث طويل .
ثم إن ضوء المكان توجه يوماً إلى الصيد والقنص وعاد إلى بغداد فقدم له بعض الأمراء من الخيول والجياد ومن الجواري الحسان ما يعجز عن وصفه اللسان فأعجبته جارية منهن فاختلى بها ودخل عليها في تلك الليلة فعلقت منه من ساعتها .
وبعد مدة عاد الوزير دندان من سفره وأخبره بخبر أخيه شركان وإنه قادم عليه وقال له :
ينبغي أن تخرج وتلاقيه .
فقال له ضوء المكان :
سمعاً وطاعة .
فخرج إليه مع كبار دولته من بغداد مسيرة يوم ، ثم نصب خيامه هناك لانتظار أخيه .
وعند الصباح أقبل الملك شركان في عساكر الشام ما بين فارس مقدام وأسد ضرغام وبطل مصدام ، فلام أشرفت الكتائب وقدمت النجائب وأقبلت المصائب وخفقت أعلام المراكب توجه ضوء المكان هو ومن معه لملاقاتهم فلما عاين ضوء المكان أراد أن يترجل إليه فأقسم عليه شركان أن لا يفعل ذلك ، وترجل شركان ومشى نحوه فلما صار بين يدي ضوء المكان رمى ضوء المكان نفسه عليه فاحتضنه شركان إلى صدره وبكيا بكاءاً شديداً وعزى بعضهما بعضاً .
ثم ركب الاثنان وسار العسكر معهما إلى أن أشرفوا على بغداد ونزلوا ، ثم تقدم ضوء المكان هو وأخوه شركان إلى قصر الملك وباتا تلك الليلة ، وعند الصباح نهض ضوء المكان وأمر أن يجمعوا العساكر من كل ناحية وينادون بالغزو والجهاد ثم أقاموا ينتظرون مجيء الجيوش من سائر البلدان وكل من حضر يكرمونه ويعدونه بالجميل إلى أن مضى على ذلك الحال مدة شهر كامل والقوم يأتون أفواجاً متتابعة ، ثم قال شركان لأخيه :
يا أخي أعلمني بقضيتك .
فأعلمه بجميع ما وقع له من الأول إلى الآخر ، وبما صنعه معه الوقاد من المعروف ، فقال له :
يا أخي ما كافأته إلى الآن ولكن أكافئه إن شاء الله تعالى لما أرجع من الغزوة .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السابعة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن شركان قال لأخيه ضوء المكان :
أما كافأت الوقاد على معروفه ?
فقال له ضوء المكان :
يا أخي ما كافأته إلى الآن ولكن إن شاء الله تعالى لما أرجع من الغزوة وأتفرغ له .
فعند ذلك عرف شركان أن أخته نزهة الزمان صادقة في جميع ما أخبرته به ، ثم كتم أمره وأمرها وأرسل إليها السلام مع الحاجب زوجها فبعثت له أيضاً معه السلام ودعت له وسألت عن ابنتها قضى فأخبرها أنها بعافية وأنها في غاية ما يكون من الصحة والسلامة فحمدت الله تعالى وشكرته ، ورجع شركان إلى أخيه يشاوره في أمر الرحيل فقال له :
يا أخي لما تتكامل العساكر وتأتي العربان من كل مكان .
ثم أمر بتجهيز المسيرة وإحضار الذخيرة ودخل ضوء المكان إلى زوجته وكان مضى لها خمسة أشهر وجعل أرباب الأقلام وأهل الحساب تحت طاعتها ورتب لها الجرايات والجوامك وسافر في ثالث شهر من حين نزول عسكر الشام بعد أن قدمت العربان وجميع العساكر من كل مكان وسارت الجيوش والعساكر وتتابعت الجحافل وكان اسم رئيس عسكر الديلم رستم واسم رئيس عسكر الترك بهرمان .
وسار ضوء المكان في وسط الجيوش وعن يمينه أخوه شركان وعن يساره الحاجب صهره ولم يزالوا سائرين مدة شهر وكل جمعة ينزلون في مكان يستريحون فيه ثلاثة أيام لأن الخلق كثيرة ، ولم يزالوا سائرين على هذه الحالة حتى وصلوا إلى بلاد الروم فنفر أهل القرى والضياع والصعاليك وفروا إلى القسطنطينية فلما سمع أفريدون ملكهم بخبرهم قام وتوجه إلى ذات الدواهي فإنها هي التي دبرت الحيل وسافرت إلى بغداد حتى قتلت الملك عمر النعمان ، ثم أخذت جواريها الملكة صفية ورجعت بالجميع إلى بلادها .
فلما رجعت إلى ولدها ملك الروم وأمنت على نفسها قالت لابنها :
قر عيناً فقد أخذت لك بثأر ابنتك إبريزة وقتلت الملك النعمان وجئت بصفية ، فقم الآن وتوجه إلى ملك القسطنطينية وأظن أن المسلمين لا يثبتون على قتالنا .
فقال :
أمهلي أن يقربوا من بلادنا حتى نجهز أحوالنا .
ثم أخذوا في جمع رجالهم وتجهز أحوالهم فلما جاءهم الخبر كانوا قد جهزوا حالهم وجمعوا الجيوش وسارت في أوائلهم ذات الدواهي فلما وصلوا إلى القسطنطينية سمع الملك الأكبر ملكها أفريدون بقدوم حردوب ملك الروم فخرج لملاقاته فلما اجتمع أفريدون بملك الروم سأله عن حاله وعن سبب قدومه فأخبره بما عملته أمه ذات الدواهي من الحيل وأنها قتلت ملك المسلمين وأخذت من عنده الملكة صفية وقالوا أن المسلمين جمعوا عساكرهم .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثامنة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن أفريدون قال لملك الروم :
أن المسلمين جمعوا عساكرهم وجاؤوا ونريد أن نكون جميعاً يداً واحدة ونلقاهم .
ففرح الملك أفريدون بقدوم ابنته وقتل عمر النعمان وأرسل إلى سائر الأقاليم طالباً منهم النجدة ويذكر لهم أسباب قتل الملك عمر النعمان فهرعت إليه جيوش النصارى فما مر ثلاثة شهور حتى تكاملت جيوش الروم ، ثم أقبلت الإفرنج من سائر أطرافها كالفرنسيس والنمسا ودوبره وجورنه وبندق وجنوير وسائر عساكر بني الأصفر ، فلما تكاملت العساكر وضاقت بهم الأرض من كثرتهم أمرهم الملك الأكبر أفريدون أن يرحلوا من القسطيطينية فرحلوا واستمر تابع عساكرهم في الرحيل عشرة أيام وساروا حتى نزلوا بواد واسع الأطراف وكان ذلك الوادي قريباً من البحر المالح فأقاموا ثلاثة أيام ، وفي اليوم الرابع أرادوا أن يرحلوا فأتتهم الأخبار بقدوم عساكر الإسلام وحماة ملة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام فأقاموا فيه ثلاثة أيام أخرى ، وفي اليوم الرابع رأوا غباراً طار حتى سد الأقطار فلم تمض ساعة من النهار حتى انجلى ذلك الغبار وتمزق إلى الجو وطارت ومحت ظلمته كواكب الأسنة والرماح وبريق بيض الصفاح وبان من تحته رايات إسلامية وأعلام محمدية ، وأقبلت الفرسان كاندفاع البحار في دروع تحسبها سحباً مزررة على أقمار ، فعند ذلك تقابل الجيشان والتطم البحران ووقعت العين في العين فأول من برز للقتال الوزير دندان هو وعساكر الشام وكانوا عشرين ألف عنان .
وكان مع الوزير مقدم الترك ومقدم الديلم رستم وبهرام في عشرين ألف فارس وطلع من ورائهم رجال من صوباً لبحر المالح وهم لابسون زرود الحديد وقد صاروا فيه كالبدور السافرة في الليالي العاكرة وصارت عساكر النصارى ينادون عيسى ومريم والصليب ثم انطبقوا على الوزير دندان ومن معه من عساكر الشام وكان هذا كله تدبير العجوز ذات الدواهي لأن الملك أقبل عليها قبل خروجه وقال لها :
كيف العمل والتدبير وأنت السبب في هذا الأمر العسير ؟
فقالت :
اعلم أيها الملك الكبير والكاهن الخطير أني أشير عليك بأمر يعجز عن تدبيره إبليس ولو استعان عليه بحزبه المتاعيس .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة التاسعة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك أن هذا كله كان تدبير العجوز لأن الملك كان أقبل عليها قبل خروجها وقال لها :
كيف العمل والتدبير وأنت السبب في هذا الأمر العسير ؟
فقالت :
اعلم أيها الملك الكبير والكاهن الخطير أني أشير عليك بأمر يعجز عن تدبيره إبليس وهو أن ترسل خمسين ألفاً من الرجال ينزلون في المراكب ويتوجهون في البحر إلى أن يصلوا إلى جبل الدخان فيقيمون هناك ولا يرحلون من ذلك المكان حتى تأتيكم أعلام الإسلام فدونكم وإياهم ، ثم تخرج إليهم العساكر من البحر ويكونون خلفهم ونحن نقابلهم من البر فلا ينجو منهم أحد وقد زال عنا العناء ودام لنا الهناء .
فاستصوب الملك أفريدون كلام العجوز وقال :
نعم الرأي رأيك يا سيدة العجائز الماكرة ومرجع الكهان في الفتن الثائرة .
وحين هجم عليهم عسكر الإسلام في ذلك الوادي لم يشعر إلا والنار تلتهب في الخيام والسيوف تعمل في الأجسام ، ثم أقبلت جيوش بغداد وخراسان وهم في مائة وعشرين ألف فارس وفي أوائلهم ضوء المكان ، فلما رآهم عسكر الكفار الذين كانوا في البحر طلعوا إليهم من البحر وتبعوا أثرهم فلما رآهم ضوء المكان قال :
ارجعوا إلى الكفار يا حزب النبي المختار وقاتلوا أهل الكفار والعدوان في طاعة الرحمن الرحيم .
وأقبل شركان بطائفة أخرى من عساكر المسلمين نحو مائة ألف وعشرين ألفاً وكانت عساكر الكفار نحو ألف ألف وستمائة ألف ، فلما اختلط المسلمون ببعض قويت قلوبهم ونادوا قائلين :
إن الله وعدنا بالنصر وأوعد الكفار بالخذلان .
ثم تصادموا بالسيف والسنان واخترق شركان الصفوف وهاج في الألوف وقاتل قتالاً تشيب منه الأطفال ولم يزل يجول في الكفار ويعمل فيهم بالصارم البتار وينادي الله أكبر حتى رد القوم إلى ساحل البحر وكانت منهم الأجسام ونصر دين الإسلام والناس يقاتلون وهم سكارى بغير مدام وقد قتل من القوم في ذلك الوقت خمسة وأربعون ألفاً وقتل من المسلمين ثلاثة آلاف وخمسمائة .
ثم إن أسد الدين الملك شركان لم ينم في تلك الليلة لا هو ولا أخوه ضوء المكان بل كانا يباشران الناس وينقذان المرضى ويهنئانهم بالنصر والسلامة والثواب في القيامة .
هذا ما كان من أمر المسلمين .
وأما ما كان من أمر الملك أفريدون ملك القسطنطينية وملك الروم وأمه العجوز ذات الدواهي فإنهم جمعوا أمراء العسكر وقالوا لبعضهم :
إنا كنا بلغنا المراد وشفينا الفؤاد ولكن إعجابنا بكثرتنا هو الذي خذلنا .
فقالت لهم العجوز ذات الدواهي :
إنه لا ينفعكم إلا أنكم تتقربون للمسيح وتتمسكون بالاعتقاد الصحيح ، فوحق المسيح ما قوى عسكر المسلمين إلا هذا الشيطان الملك شركان .
فقال الملك أفريدون :
إني قد عولت في غد على أن أصف لهم الصفوف وأخرج لهم الفارس المعروف لوقابن شملوط فإنه إذا برز إلى الملك شركان قتله وقتل غيره من الأبطال حتى لم يبق منهم أحد ، وقد عولت في هذه الليلة على تقديسكم بالبخور الأكبر .
فلما سمعوا كلامه قبلوا الأرض .
وكان البخور الذي أراده أخوه البطريق الكبير ذو الإنكار والنكير فإنهم كانوا يتنافسون فيه ويستحسنون مساويه حتى كانت أكابر بطارقة الروم يبعثونه إلى سائر أقاليم بلادهم في خرق من الحرير ويمزجونه بالمسك والعنبر فإذا وصل خراؤه إلى الملوك يأخذون منه كل درهم بألف دينار حتى كان الملوك يرسلون في طلبه من أجل بخور العرائس وكانت البطارقة يخلطونه بخرائهم فإن خره البطريق الكبير لا يكفي عشرة أقاليم وكان خواص ملوكهم يجعلون قليلاً منه في كحل العيون ويداوون به المريض والمبطون ، فلما أصبح الصباح وأشرق بنوره ولاح وتبادرت الفرسان إلى حمل الرماح .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة العاشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أنه لما اصبح الصباح عاد الملك أفريدون بخواص بطارقته وأرباب دولته وخلع عليهم ونقش الصليب في وجوههم وبخرهم بالبخور المتقدم ذكره الذي هو خره البطريق الأكبر والكاهن الأكبر فلما بخرهم دعا بحضور لوقا بن شملوط الذي يسمونه سيف المسيح وبخره بالرجيع وحنكه به بعد التبخير ونشقه ولطخ به عوارضه ومسح بالفضلة شواربه وكان ذلك الملعون لوقا ما في بلاد الروم أعظم منه ولا أرمى بالنبال ولا أضرب بالسيف ولا أطعن بالرمح والنزال ، وكان بشع المنظر ، كان وجهه وجه حمار وصورته صورة قرد وطلعته طلعة الرقيب وقربه أصعب من فراق الحبيب له من الليل ظلمته ومن البحر الأبخرة نكهته ومن القوس قامته ومن الكفر سميته ، وبعد ذلك أقبل على الملك أفريدون وقبل قدميه ثم وقف بين يديه فقال الملك أفريدون :
إني أريد أن تبرز إلى شركان ملك دمشق ابن عمر النعمان وقد انجلى عنا هذا الشر والهوان .
فقال :
سمعاً وطاعة .
ثم أن الملك نقش في وجهه الصليب وزعم أن النصر يحصل له عن قريب ثم انصرف لوقا من عند الملك أفريدون وركب الملعون لوقا جواداً أشقر وعليه ثوب أحمر وزردية من الذهب المرصع بالجواهر وحمل رمحاً له ثلاث حراب كأنه إبليس الليل يوم الأحزاب وتوجه هو وحزبه كأنهم يساقون إلى النار وبينهم مناد ينادي بالعربي ويقول :
يا أمة محمد لا يخرج منكم إلا فارسكم سيف الإسلام شركان صاحب دمشق الشام .
فما استتم كلامه إلا وضجة في الفلا سمع صوتها جميع الملا وركضات فرقت الصفي واذكرت يوم حنين ففزع اللئام منها ولفتوا الأعناق نحوها وإذا هو الملك شركان ابن الملك النعمان وكان أخوه ضوء المكان لما رأى ذلك الملعون في الميدان وسمع المنادي التفت لأخيه شركان وقال له :
إنهم يريدونك .
فقال :
إن كان الأمر كذلك فهو أحب إلي .
فلما تحققوا الأمر وسمعوا هذا المنادي وهو يقول في الميدان :
لا يبرز إلا شركان .
علموا أن هذا الملعون فارس بلاد الروم وكان قد حلف أن يخلي الأرض من المسلمين وإلا فهو أخسر الخاسرين لأنه هو الذي حرق الأكباد وفزعت من سره الأجناد من الترك والديلم والأكراد ، فعند ذلك برز إليه شركان كأنه أسد غضبان وكان راكباً على ظهر جواد يشبه شارد الغزالان فساقه نحو لوقا حتى صار عنده وهز الرمح في يده كأنه أفعى من الحيات ، وأنشد هذه الأبيات :
لي أشقر سمج العنان مـغـاير ........ يعطيك ما يرضيك من مجهوده
ومثقف لدن السنـان كـأنـمـا ........ أم المنايا ركبـت فـي عـوده
ومهند غـضـب إذا جـردتـه ........ خلت البروق تموج في تجريده
فلم يفهم لوقا معنى هذا الكلام ولا حماسة هذا النظام بل لطم وجهه بيده تعظيماً للصليب المنقوش عليه ثم قبلها وأشرع الرمح نحو شركان وكر عليه ثم طوح الحربة بإحدى يديه حتى خفيت عن أعين الناظرين وتلقاها باليد الأخرى كفعل الساحرين ثم رمى بها شركان فخرجت من يديه كأنها شهاب ثاقب ، فضجت الناس وخافوا على شركان .
فلما قربت الحربة منه اختطفها من الهواء فتحيرت عقول الورى ، ثم إن شركان هزها بيده التي أخذها بها النصراني حتى كادان يقصلها ورماها في الجو حتى خفيت عن النظر وتلقاها بيده الثانية في أقرب من لمح البصر وصاح صيحة من صميم قلبه وقال :
وحق من خلق السبع الطباق لأجعلن هذا اللعين شهرة في الآفاق .
ثم رماه بالحربة فأراد لوقا أن يفعل بالحربة كما فعل شركان ومد يده إلى الحربة ليختطفها من الهواء فعاجله شركان بحربة ثانية فضربه بها فوقعت في وسط الصليب الذي في وجهه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار .
فلما رأى الكفار لوقا بن سملوط وقع مقتولاً لطموا على وجوههم ونادوا بالويل والثبور واستغاثوا ببطارقة الديور .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الحادية عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الكفار لما رأوا لوقا بن شملوط وقع مقتولاً لطموا على وجوههم واستغاثوا ببطارقة الديور وقالوا :
أين الصلبان وتزهد الرهبان ?
ثم اجتمعوا جميعاً عليه وأعملوا الصوارم والرماح وهجموا للحرب والكفاح والتقت العساكر بالعساكر وصارت الصدور تحت وقع الحوافر وتحكمت الرماح والصوارم وضعفت السواعد والمعاصم وكان الخيل خلقت بلا قوائم ولا زال منادي الحرب ينادي إلى أن كلت الأيادي وذهب النهار وأقبل الليل بالاعتكار وافترق الجيشان وصار كل شجاع كالسكران من شدة الضرب والطعان وقد امتلأت الأرض بالقتلى وعظمت الجراحات وصار لا يعرف الجريح ممن مات .
ثم إن شركان اجتمع بأخيه ضوء المكان والحاجب والوزير دندان ، فقال شركان لأخيه ضوء المكان والحاجب :
إن الله قد فتح باباً لهلاك الكافرين والحمد لله رب العالمين .
فقال ضوء المكان لأخيه :
لم نزل نحمد الله لكشف الحرب عن العرب والعجم وسوف تتحدث الناس جيلاً بعد جيل بما صنعت باللعين لوقا محرف الإنجيل وأخذك الحربة من الهواء وضربك لعدو الله بين الورى ويبقى حديثك إلى آخر الزمان .
ثم قال شركان :
أيها الحاجب الكبير والمقدام الخطير .
فأجابه بالتلبية فقال له :
خذ معك الوزير دندان وعشرين ألف فارس وسر بهم إلى ناحية البحر مقدار سبعة فراسخ وأسرعوا في السير حتى تكونوا قريباً من الساحل بحيث يبقى بينكم وبين القوم قدر فرسخين واختفوا في وهدات الأرض حتى تسمعوا ضجة الكفار إذا طلعوا من المراكب وتسمعوا الصياح من كل جانب وقد عملت بيننا وبينهم القواضب ، فإذا رأيتم عسكرنا تقهقروا إلى الوراء كأنهم منهزمون وجاءت الكفار زاحفة خلفهم من جميع الجهات حتى من جانب الساحل فكونا لهم بالمرصاد وإذا رأيت أنت علماً عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فارفع العلم الأخضر وصح قائلاً :
الله أكبر .
واحمل عليهم من ورائهم واجتهد في أن لا يحول الكفار بين المنهزمين وبين البحر .
فقال :
السمع والطاعة .
واتفقوا على ذلك الأمر في تلك الساعة .
ثم تجهزوا وساروا وقد أخذ الحاجب معه الوزير دندان وعشرين ألفاً كما أمر الملك شركان ، فلما أصبح الصباح ركب القوم وهم مجردون الصفاح ومعتلون بالرماح وحاملون السلاح وانتشرت الخلائق في الربا والبطاح وصاحت القسوس وكشفت الرؤوس ورفعت الصلبان على قلوع المراكب وقصدوا الساحل من كل جانب وأنزلوا الخيل في البر وعزموا من الكر والفر ولمعت السيوف وتوجهت الجموع وبرقت شهب الرماح على الدروع ودارت طاحون المنايا على الرجال والفرسان وطارت الرؤوس عن الأبدان وخرست الألسن وتغشت الأعين وانفطرت المرائر وعملت البواتر وطارت الجماجم وقطعت المعاصم وخاضت الخيل في الدماء وتقابضوا باللحى وصاحت عساكر الإسلام بالصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الأنام وبالثناء على الرحمن بما أولى من الإحسان وصاحت عساكر الكفر بالثناء على الصليب والزنار والعصير والعصار والقسوس والرهبان والشعانين والمطران وتأخر ضوء المكان هو وشركان إلى ورائهما وتقهقرت الجيوش وأظهروا الانهزام للأعداء وزحفت عليهم عساكر الكفر لولهم الهزيمة وتهيئوا للطعن والضرب فاستهل أهل الإسلام قراءة أول سورة البقرة وصارت القتلى تحت أرجل الخيل مندثرة وصار منادي الروم يقول :
يا عبدة المسيح وذوي الدين الصحيح يا خدام الجاثليق قد لاح لكم التوفيق ، إن عساكر الإسلام قد جنحوا إلى الفرار فلا تولوا عنهم الأدبار فمكنوا السيوف في أقفائهم ولا ترجعوا من ورائهم وإلا برئتم من المسيح بن مريم الذي في المهد تكلم .
وظن أفريدون ملك القسطنطينية أن عساكر الكفار منصورة ولم يعلم أن ذلك من تدبير المسلمين صورة فارسل إلى ملك الروم يبشره بالظفر ويقول له :
ما نفعنا لا غائط البطريق الأكبر لما لاحت رائحته من اللحى والشوارب بين عباد الصليب حاضر وغائب وأقسم بالمعجزات النصرانية المريمية والمياه المعمودية ، أني لا أترك على الأرض مجاهداً بالكلية وأني مصر على سوء هذه النية .
وتوجه الرسول بهذا الخطاب ثم صاح على بعضهم قائلين :
خذوا بثأر لوقا .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثانية عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الكفار صاحوا على بعضهم قائلين :
خذوا بثأر لوقا .
وصار ملك الروم ينادي بالأخذ بثأر إبريزة ، فعند ذلك صاح الملك ضوء المكان وقال :
يا عباد الملك الديان اضربوا أهل الكفر والطغيان ببيض الصفاح وسمر الرماح .
فرجع المسلمون على الكفار وأعملوا فيهم الصارم البتار وصار ينادي منادي المسلمين ويقول :
عليكم بأعداء الدين يا محب النبي المختار هذا وقت إرضاء الكريم الغفار يا راجي النجاة في اليوم المخيف ، إن الجنة تحت ظلال السيوف .
وإذا بشركان قد حمل ومن معه على الكفار وقطعوا عليهم طريق الفرار وجال بين الصفوف وطاف وإذا بفارس مليح الانعطاف وقد فتح بين عسكر الكفر ميداناً وجال في الكفرة حرباً وطعاناً وملأ الأرض رؤوساً وأبداناً وقد خافت الكفار من حربه ومالت أعناقهم لطعنه وضربه قد تقلد بسيفين لحظ وحسام واعتقل برمحين قناة وقوام بوفرة تغني عن وافر عدد العساكر كما قال فيه الشاعر :
لا تحسن الوفرة إلا وهـي ........ منشورة القرعين يوم النزال
على فتى معتقل صـعـده ........ يعلها من كل وافي السبـال
فلما رآه شركان قال :
أعيذك بالقرآن وآيات الرحمن من أنت أيها الفارس من الفرسان فلقد أرضيت بفعلك الملك الديان الذي لا يشغله شأن عن شأن حيث هزمت أهل الكفر والطغيان .
فناداه الفارس قائلاً :
أنت الذي بالأمس عاهدتني فما أسرع ما نسيتني .
ثم كشف اللثام عن وجهه حتى ظهر ما خفي من حسنه فإذا هو ضوء المكان ففرح به شركان إلا أنه خاف عليه من ازدحام الأقران وانطباق الشجعان وذلك لأمرين أحدهما صغر سنه وصيانته عن العين والثاني أن بقاءه للمملكة أعظم الجناحين ، فقال له :
يا ملك إنك لقد خاطرت بنفسك فالصق جوادك بجوادي فإني لا آمن عليك من الأعادي والمصلحة في أن لا تخرج من تلك العصائب لأجل أن ترمي الأعداء بسهمك الصائب .
فقال ضوء المكان :
أني أردت أن أساويك في النزال ولا أبخل بنفسي بين يديك في القتال .
ثم انطبقت عساكر الإسلام على الكفار وأحاطوا بهم من جميع الأقطار وجاهدوهم حق الجهاد وكسروا شوكة الكفر والعناد والفساد فتأسف الملك أفريدون لما رأى ما حل بالروم من الأمر المذموم وركنوا إلى الفرار يقصدون المراكب ، وإذا بالعساكر قد خرجت عليهم من ساحل البحر وفي أوائلهم الوزير دندان مجندل الشجعان وضرب فيهم بالسيف والسنان وكذا بالأمير بهرام صاحب دوائر الشام وهو في عشرين ألف ضرغام وأحاطت بهم عساكر الإسلام من خلف ومن أمام ومالت فرقة من المسلمين على من كان في المراكب وأوقعوا فيهم المعاطب فرموا أنفسهم في البحر وقتلوا منهم جمعاً عظيماً يزيد على مائة ألف فارس ولم ينج من أبطالهم صغير ولا كبير وأخذوا مراكبهم بما فيها من الأموال والذخائر والأثقال إلا عشرين مركباً ، وغنم المسلمون في ذلك اليوم غنيمة ما غنم مثلها في سالف الزمان إذن بمثل هذا الحرب والطعان ، ومن جملة ما غنموه خمسون ألفاً من الخيل غير من مزيد بما من الله عليهم من النصر والتأييد .
هذا ما كان من أمرهم .
وأما ما كان من أمر المنهزمين فإنهم وصلوا إلى القسطنطينية وكان الخبر قد وصل إلى أهاليها أولاً بأن الملك أفريدون هو الظافر بالمسلمين فقالت العجوز ذات الدواهي :
أنا أعلم أن ولدي ملك الروم لا يكون من المنهزمين ولا يخاف من الجيوش الإسلامية ويرد أهل الأرض إلى ملة النصرانية .
ثم إن العجوز كانت أمرت أفريدون أن يزين البلد فأظهروا السرور وشربوا الخمور وما علموا بالمقدور ، فبينما هم في وسط الأفراح إذ نعق عليهم غراب الحزن والأتراح وأقبلت عليهم العشرون مركباً الهاربة وفيها ملك الروم فقابلهم أفريدون ملك القسطنطينية على الساحل وأخبرهم بما جرى لهم من المسلمين فزاد بكاؤهم وعلا نحيبهم وانقلبت بشارات الخير بالغم والضير أخبروه أن لوقا بن شملوط حلت به النوائب وتمكن منه سهم المنية الصائب فقامت على الملك أفريدون القيامة وعلم أن اعوجاجهم ليس له استقامة وقامت بينهم المآتم وانحلت منهم العزائم وندبت النوادب وعلا النحيب والبكاء من كل جانب ، ولما دخل ملك الروم أفريدون وأخبره بحقيقة الحال وأن هزيمة المسلمين كانت على وجه الخداع والمحال قال له :
لا تنتظر أن يصل من العسكر إلا من وصل إليك .
فلما سمع الملك أفريدون ذلك الكلام وقع مغشياً عليه وصار أنفه تحت قدميه .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الثالثة عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أفريدون لما أفاق من غشيته نفض خوف جراب معدته فشكا إلى العجوز ذات الدواهي وكانت تلك اللعينة كاهنة من الكهان متقنة للسحر والبهتان عامرة مكارة فاجرة غدارة ولها فم وشعر أشهب وظهر أحدب ولون حائل ومخاط سائل لكنها قرأت كتب الإسلام وسافرت إلى بيت الله الحرام كل ذلك لتطلع على الأدبار وتعرف آيات القرآن ومكثت في بيت المقدس سنتين لتحوز مكر النقلين .
فهي آفة من الآفات وبلية من البليات فاسدة الاعتقاد ليست لدين تنقاد وكانت أكثر إقامتها عند ولدها حردوب ملك الروم لأجل الجواري الأبكار لأنها كانت تحب السحاق وإن تأخر عنها تكون في انمحاق وكل جارية أعجبتها تعلمها الحكمة وتسحق عليها الزعفران فيغشى عليها من فرط اللذة مدة من الزمان فمن طاوعتها أحسنت إليها ورعيت ولدها فيها ومن لا تطاوعها تتحايل على هلاكها وبسبب ذلك علمت مرجانة وريحانة وأترجة جواري إبريزة ، وكانت الملكة إبريزة تكره العجوز وتكره أن ترقد معها لأن صنانها يخرج من تحت إبطيها ورائحة فسائها أنتن من الجيفة وجسدها أخشن من الليفة وكانت ترغب من يساحقها بالجواهر والتعليم وكانت إبريزة تبرأ منها إلى الحكيم العليم ، ولله در القائل :
يا من تسفل للغـنـي مـذلة ........ وعلى الفقير لقد علا تياهـا
ويزين شنعته بجمع دراهـم ........ عطر القبيحة لا يبقى بفساها
ولنرجع إلى حديث مكرها ودواهي أمرها ، ثم إنها سارت وسار معها عظماء النصارى وعساكرهم وتوجهوا إلى عسكر الإسلام وبعدها دخل الملك أفريدون على ملك الروم فقال له ملك الروم :
أيها الملك ليس لنا حاجة بأمر البطريق الكبير ولا بدعائه بل نعمل برأي أمي ذات الدواهي وتنظر ما تعمل بخداعها غير المتناهي مع عسكر المسلمين فإنهم بقوتهم واصلون إلينا وعن قريب يكونون لدينا ويحيطون بنا .
فلما سمع الملك أفريدون ذلك الكلام عظم في قلبه فكتب من وقته وساعته إلى سائر أقاليم النصارى يقول لهم :
ينبغي أن لا يتخلف أحد من أهل الملة النصرانية والعصبة الصليبية خصوصاً أهل الحصون والقلاع بل يأتون إلينا جميعاً رجالاً ونساء وصبياناً ، فإن عسكر المسلمين قد وطئوا أرضنا فالعجل العجل قبل حلول الوجل .
هذا ما كان من أمر هؤلاء .
وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي فإنها طلعت خارج البلد مع أصحابها وألبستهم زي تجار المسلمين وكانت قد أخذت معها مائة بغل محملة من القماش الأنطاكي ما بين أطلس معدني وديباج ملكي وغير ذلك وأخذت من الملك أفريدون كتاباً مضمونه :
أن أهل هؤلاء التجار من أرض الشام وكانوا في ديارنا فلا ينبغي أن يتعرض لهم أحد بسوء عشراً أو غيره حتى يصلوا إلى بلادهم ومحل أمنهم لأن التجار بهم عمار البلاد وليسوا من أهل الحرب والفساد .
ثم إن الملعونة ذات الدواهي قالت لمن معها :
إني أريد أن أدبر حيلة على هلاك المسلمين .
فقالوا لها :
أيتها الملكة أؤمرينا بما شئت فنحن تحت طاعتك فلا أحبط المسيح عملك .
فلبست ثياباً من الصوف الأبيض الناعم وحكت جبينها حتى صار له وسم ودهنته بدهان دبرته حتى صار له ضوء عظيم ، وكانت الملعونة نحيلة الجسم غائرة العينين فقيدت رجليها من فوق قدميها وسارت حتى وصلت إلى عسكر المسلمين ثم حلت القيد من رجليها وقد أثر القيد في ساقها ثم دهنتهما بدم الأخوين وأمرت من معها أن يضربوها ضرباً عنيفاً وأن يضعوها في صندوق فقالوا لها :
كيف نضربك وأنت سيدتنا ذات الدواهي أم الملك الباهي ?
فقالت :
لا لوم ولا تعنيف على من يأتي الكنيف ولأجل الضرورات تباح المحظورات ، وبعد أن تضعوني في الصندوق خذوه في جملة الأموال واحملوه على البغال ومروا بذلك فوق عسكر الإسلام ولا تخشوا شيئاً من الملام وإن تعرض لكم أحد من المسلمين فسلموا له البغال وما عليها من الأموال وانصرفوا إلى ملكهم ضوء المكان واستغيثوا به وقولوا له نحن كنا في بلاد الكفر ولم يأخذوا منا شيئاً بل كتبوا لنا توقيعاً أنه لا يتعرض لنا أحد فكيف تأخذون أنتم أموالنا وهذا كتاب ملك الروم الذي مضمونه أن لا يتعرض لنا أحد بمكروه .
فإذا قال :
وما الذي ربحتموه من بلاد الروم في تجارتكم ?
فقولوا له :
ربحنا خلاص رجل زاهد وقد كان في سرداب تحت الأرض له فيه خمسة عشر عاماً وهو يستغيث فلا يغاث بل يعذبه الكفار ليلاً ونهاراً ولم يكن عندنا علم بذلك مع أننا أقمنا في القسطنطينية مدة من الزمان وبعنا بضائعنا واشترينا خلافها وجهزنا حالنا وعزمنا على الرحيل إلى بلادنا وبتنا تلك الليلة نتحدث في أمر السفر .
فلما أصبحنا رأينا صورة مصورة في الحائط فلما قربنا منها تأملناها فإذا هي تحركت وقالت :
يا مسلمين هل فيكم من يعامل رب العالمين ?
فقلنا :
وكيف ذلك ؟
فقالت تلك الصورة :
إن الله أنطقني لكم ليقوي يقينكم ويلهمكم دينكم وتخرجوا من بلاد الكافرين وتقصدوا عسكر المسلمين فإن فيهم سيف الرحمن وبطل الزمان الملك شركان وهو الذي يفتح القسطيطينية ويهلك أهل الملة النصرانية ، فإذا قطعتم سفر ثلاثة أيام تجدوا ديراً يعرف بدير مطروحنا وفيه صومعة فاقصدوا بصدق نيتكم وتحيلوا على الوصول إليها بقوة عزيمتكم لأن فيها رجلاً عابداً من بيت المقدس اسمه عبد الله وهو من أدين الناس وله كرامات تزيح الشك والإلباس قد خدعه بعض الرهبان وسجنه في سرداب له فيه مدة مديدة من الزمان وفي إنقاذه وضارب العباد لأن فكاكه من أفضل الجهاد .
ثم إن العجوز لما اتفقت مع من معها على هذا الكلام وقالت لهم :
فإذا ألقى إليكم الملك شركان سمعه فقولوا له .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الرابعة عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز لما اتفقت مع من معها على الكلام قالت :
فإذا ألقى إليكم الملك شركان سمعه فقولوا له :
فلما سمعنا هذا الكلام من تلك الصورة علمنا أن ذلك العابد من أكابر الصالحين وعباد الله المخلصين فسافرنا مدة ثلاثة أيام ثم رأينا ذلك الدير فعرجنا عليه وملنا إليه وأقمنا هناك يوماً في البيع والشراء على عادة التجار ، فلما ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار قصدنا تلك الصومعة التي فيها السرداب فسمعناه بعد تلاوة الآيات ينشد هذه الأبيات :
كيداً أكـايده وصـدري ضـيق ........ وجرى بقلبي بحرهم مغـرق
إن لم يكن فرج فموت عاجـل ........ إن الحمام من الرزايا أرفـق
يا برق إن جئت الديار وأهلهـا ........ وعلا عليك من البشائر رونق
كيف السبيل إلى اللقاء وبينـنـا ........ تلك الحروب وباب رهن مغلق
بلغ أحبتنا السلام وقـل لـهـم ........ إني بدير الروم قاص موثـق
ثم قالت :
إذا وصلتم بي إلى عسكر المسلمين وصرت أعرف أدبر حيلة في خديعتهم وقتلهم عن أخرهم .
فلما سمع النصارى كلام العجوز قبلوا يديها ووضعوها في الصندوق بعد أن ضربوها أشد الضربات الموجعات تعظيماً لها لأنهم يرون طاعتها من الواجب ثم قصدوا بها عسكر المسلمين كما ذكرنا .
هذا ما كان من أمر اللعينة ذات الدواهي ومن معها .
وأما ما كان من أمر عسكر المسلمين فإنهم لما نصرهم الله على أعدائهم وغنموا ما كان في المراكب من الأموال والذخائر قعدوا يتحدثون مع بعضهم فقال ضوء المكان لأخيه :
إن الله عز وجل قد نصرنا بسبب عذلنا وانقيادنا لبعضنا فكن يا شركان ممتثلاً لأمري في طاعة الله .
فقال شركان :
حباً وكرامة .
ومد يده إلى أخيه وقال :
إن جاءك ولد أعطيته ابنتي قضى فكان .
ففرح بذلك وصار يهنئ بعضهم بعضاً بالنصر على الأعداء وهنا الوزير دندان شركان وقال لهما :
اعلما أيها الملكان أن الله عز وجل نصرنا حيث وهبنا أنفسنا وهجرنا الأهل والأوطان ، والرأي عندي أن نرحل وراءهم ونحاصرهم ونقاتلهم لعل الله أن يبلغنا مرادنا ونستأصل أعداءنا وإن شئتم فانزلوا في هذه المراكب وسيروا في البحر ونحن نسير في البر ونصبر على القتال والطعن والنزال .
ثم أن الوزير دندان ما زال يحرضهم على القتال وأنشد قول من قال :
أطيب الطيبات قتل الأعادي ........ واحتمال على ظهور الجياد
ورسول يأتي بوعد حبـيب ........ وحبيب يأتي بلا مـيعـاد
وقال آخر :
وإن عمرت جعلت الحرب والدة ........ والمشرفي أخا والسمهري أبـا
بكل أشعث يلقي الموت مبتسماً ........ حتى كان له في قتـلـه إربـا
فلما فرغ الوزير دندان من شعره قال :
سبحان من أيدنا بنصره العزيز وأظفرنا بغنيمة الفضة والإبريز .
ثم أمر ضوء المكان العسكر بالرحيل فسافروا طالبين القسطنطينية وجدوا في سيرهم حتى أشرفوا على مرج فسيح وفيه كل شيء مليح ما بين وحوش تمرح وغزلان تسنح وكانوا قد قطعوا مغاور كثيرة وانقطع عنهم الماء ستة أيام ، فلما أشرفوا على ذلك المرج نظروا تلك العيون النابعة والأثمار اليانعة وتلك الأرض كأنها جنة أخذت زخرفها وازّينت وسكرت أغصانها من رحيق الظل فتمايلت وجمعت بين عذوبة التنسيم فتدهش العقل والناظر كما قال الشاعر :
انظر إلى الروض النضـير كأنـما ........ نشرت عليه ملاءة خـضـراء
إن ما سنحت بلحظ عينك لا تـرى ........ إلا غديراً جـال فـيه الـمـاء
وترى بنفسك عـزة فـي دوحـة ........ إذ فوق رأسك حيث سرت لواء
وما أحسن قول الآخر :
النهر خد بـالـشـعـاع مـورد ........ قد دب فيه عذار ظـل الـبـان
والماء في سوق الغصون خلاخل ........ من فضة والزهر كالتـيجـان
فلما نظر ضوء المكان إلى ذلك المرج الذي التفت أشجاره وزهت أزهاره وترنمت أطياره نادى أخاه شركان وقال له :
إن دمشق ما فيها مثل هذا المكان فلا نرحل منه إلا بعد ثلاثة أيام نأخذ راحة لأجل أن تنشط عساكر الإسلام وتقوي نفوسهم على لقاء الكفرة اللئام .
فأقاموا فيه .
فبينما هم كذلك إذ سمعوا أصواتاً من بعيد فسأل عنهم ضوء المكان فقيل أنها قافلة تجار من بلاد الشام كانوا نازلين في هذا المكان للراحة ولعل العساكر صادفوهم وربما أخذوا شيئاً من بضائعهم التي معهم حيث كانوا في بلاد الكفار وبعد ساعة جاء التجار وهم صارخون يستغيثون بالملك ، فلما رأى ضوء المكان ذلك أمر بإحضارهم فحضروا بين يديه وقالوا :
أيها الملك إنا كنا في بلاد الكفار ولم ينهبوا منا شيئاً فكيف تنهب أموالنا أخواننا المسلمون ونحن أخبرناك بما حصل لنا ?
ثم أخرجوا له كتاب ملك القسطنطينية فأخذه شركان وقرأه ثم قال لهم :
سوف نرد عليكم ما أخذ منكم ولكن كان من الواجب أن لا تحملوا تجارة إلى بلاد الكفار .
فقالوا :
يا مولانا إن الله سيرنا إلى بلادهم لنظفر بما لم يظفر به أحد من الغزاة ولا أنتم في غزوتكم .
فقال له شركان :
وما الذي ظفرتم به ?
فقالوا :
ما نذكر لك ذلك إلا في خلوة لأن هذا الأمر إذا شاع بين الناس ربما اطلع عليه أحد فيكون ذلك سبباً لهلاكنا وهلاك كل من توجه إلى بلاد الروم من المسلمين .
وكانوا قد خبئوا الصندوق الذي فيه اللعينة ذات الداوهي ، فأخذهم ضوء المكان وأخوه واختليا بهم فشرحوا لهما حديث الزاهد وصاروا يبكون حتى أبكوهما .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة الخامسة عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن النصارى الذين في هيئة التجار لما اختلى بهم ضوء المكان وأخوه شركان شرحوا لهما حديث الزاهد وبكوا حتى أبكوهما وأخبروهما كما أعلمتهم الكاهنة ذات الدواهي فرق قلب شركان للزاهد وأخذته الرأفة عليه وقامت به الحمية لله تعالى وقال لهم :
هل خلصتم هذا الزاهد أم هو في الدير إلى الآن ?
فقالوا :
بل خلصناه وقتلنا صاحب الدير من خوفنا على أنفسنا ثم أسرعنا في الهرب خوفاً من العطب ، وقد أخبرنا بعض الثقات أن في هذا الدير قناطير من الذهب والفضة والجواهر .
وبعد ذلك أتوا بالصندوق وأخرجوا منه تلك الملعونة كأنها قرن خيار شنبر من شدة السواد والنحول وهي مكبلة بتلك السلاسل والقيود ، فلما نظرها ضوء المكان هو والحاضرون ظنوا أنها رجل من خيار العباد ومن أفضل الزهاد خصوصاً وجبينها يضيء من الدهان الذي دهنت به وجهها ، فبكى ضوء المكان وأخوه شركان بكاء شديداً ثم قاموا إليها وقبلا يديها ورجليها وصارا ينتحبان ، فأشارت إليهما وقالت :
اعلما أني قد رضيت بما صنعه بي مولاي لأني أرى أن البلاء الذي حل بي لأجل أن أموت تحت حوافر خيل المجاهدين الذين هم بعد القتل أحياء غير أموات .
ثم أنشدت هذه الأبيات :
الحصن طور ونار الحرب موقـدة ........ وأنت موسى وهذا الوقت ميقـات
ألق العصا تتلقف كل ما صنـعـوا ........ ولا تخف ما حبال القـوم حـيات
فاقرأ سطور العدا يوم الوغى سورا ........ فإن سيفك فـي الأعـنـاق آيات
فلما فرغت العجوز من شعرها تناثرت من عينيها المدامع وجبينها بالدهان كالضوء اللامع فقام إليها شركان وقبل يدها وأحضر لها الطعام فامتنعت وقالت :
إني لم أفطر من مدة خمسة عشر عاماً فكيف أفطر في هذه الساعة وقد جاد على المولى بالخلاص من أسر الكفار ودفع عني ما هو أشق من عذاب النار فأنا أصبر إلى الغروب .
فلما جاء وقت العشاء أقبل شركان هو وضوء المكان وقدما إليها الأكل وقالا لها :
كل أيها الزاهد .
فقالت :
ما هذا وقت الأكل وإنما هذا وقت عبادة الملك الديان .
ثم انتصبت في المحراب تصلي إلى أن ذهب الليل ولم تزل على هذه الحالة ثلاثة أيام بلياليها هي لا تقعد إلا وقت التحية ، فلما رآها ضوء المكان على تلك الحالة ملك قلبه حسن الاعتقاد فيها وقال لشركان :
اضرب خيمة من الأديم لذلك العابد ووكل فراشاً بخدمته .
وفي اليوم الرابع دعت بالطعام فقدموا لها من الألوان ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فلم تأكل من ذلك كله إلا رغيفاً واحداً ثم نوت الصوم ، ولما جاء الليل قامت إلى الصلاة فقال شركان لضوء المكان :
أما هذا الرجل فقد زهد الدنيا غاية الزهد ولولا هذا الجهاد لكنت لازمته وأعبد الله بخدمته حتى ألقاه ، وقد اشتهيت أن أدخل معه الخيمة وأتحدث معه ساعة .
فقال له ضوء المكان :
وأنا كذلك ولكن نحن في غد ذاهبون إلى غزو القسطنطينية ولم نجد لنا مثل هذه الساعة .
فقال الوزير دندان :
وأنا الآخر اشتهي أن أرى ذلك الزاهد لعله يدعو لي بقضاء نحبي في الجهاد ولقاء ربي ، فإني زهدت الدنيا .
فلما جن الليل دخلوا على تلك الكاهنة ذات الدواهي في خيمتها فرأوها قائمة تصلي فدنوا منها وصاروا يبكون رحمة لها وهي لا تلتفت إليهم إلى أن انتصف الليل فسلمت من صلاتها ثم أقبلت عليهم وحيتهم وقالت لهم :
لماذا جئتم ?
فقالوا لها :
أيها العابد أما سمعت بكاءنا حولك ?
فقالت :
إن الذي يقف بين يدي الله لا يكون له وجود في الكون حتى يسمع صوت أحد أو يراه .
ثم قالوا :
إننا نشتهي أن تحدثنا بسبب أسرك وتدعو لنا في هذه الليلة فإنها خير لنا من ملك القسطنطينية .
فلما سمعت كلامهم قالت :
والله لولا أنكم أمراء المسلمين ما أحدثكم بشيء من ذلك أبداً فإني لا أشكو إلا إلى الله وها أنا أخبركم بسبب أسري :
اعلموا أنني كنت في القدس مع بعض الأبدال وأرباب الأحوال وكنت لا أتكبر عليهم لأن الله سبحانه وتعالى أنعم علي بالتواضع والزهد فاتفق أنني توجهت إلى البحر ليلة ومشيت على الماء فداخلني العجب من حيث لا أدري وقلت في نفسي :
من مثلي يمشي على الماء فقسا قلبي من ذلك الوقت وابتلاني الله تعالى بحب السفر فسافرت إلى بلاد الروم وجلت في أقطارها سنة كاملة حتى لم أترك موضعاً إلا عبدت الله فيه ، فلما وصلت إلى هذا المكان صعدت إلى هذا الجبل وفيه دير راهب يقال له مطروحنا ، فلما رآني خرج إلي وقبل يدي ورجلي وقال :
إني رأيتك منذ دخلت بلاد الروم وقد شوقني إلى بلاد الإسلام ثم أخذ بيدي وأدخلني في ذلك الدير ثم دخل بي إلى بيت مظلم فلما دخلت غافلني وأغلق الباب علي وتركني فيه أربعين يوماً من غير طعام ولا شراب وكان قصده بذلك قتلي صبراً ، فاتفق في بعض الأيام أنه دخل ذلك الدير بطريق يقال له دقيانوس ومعه عشرة من الغلمان ومعه ابنة يقال لها تماثيل ولكنها في الحسن ليس لها مثيل .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السادسة عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز ذات الدواهي قالت :
إن البطريق دخل علي ومعه عشرة من الغلمان ومعه ابنة غاية في الجمال ليس لها مثيل ، فلما دخلوا الدير أخبرهم الراهب مطروحنا بخبري فقال البطريق :
أخرجوه لأنه لم يبق من لحمه ما يأكله الطير .
ففتحوا باب ذلك البيت المظلم فوجدوني منتصباً في المحراب أصلي وأقرأ وأسبح وأتضرع إلى الله تعالى فلما سمعوا كلامه قاموا جميعاً ودخلوا علي ، وأقبل علي دقيانوس هو وجماعته وضربوني ضرباً عنيفاً فعند ذلك تمنيت الموت ولمت نفسي وقلت :
هذا جزاء من يتكبر ويعجب بما أنعم عليه ربه مما ليس في طاقته ، وأنت يا نفسي قد داخلك العجب والكبر أما علمت أن الكبر يغضب الرب ويقسي القلب ويدخل الإنسان في النار .
ثم بعد ذلك قيدوني وردوني إلى مكاني وكان سرداباً في ذلك البيت تحت الأرض وكل ثلاثة أيام يرمون إلي قرص من الشعير وشربة ماء وكل شهر أو شهرين يأتي البطريق ويدخل ذلك الدير وقد كبرت ابنته تماثيل لأنها كانت بنت تسع سنين حين رأيتها ومضى لي في الأسر خمس عشرة سنة فجملة عمرها أربعة وعشرون عاماً ، وليس في بلادنا ولا في بلاد الروم أحسن منها وكان أبوها يخاف عليها من الملك أن يأخذها منه لأنها وهبت نفسها للمسيح غير أنها تركب مع أبيها في زي الرجال الفرسان وليس لها مثيل في الحسن ولم يعلم من رآها أنها جارية وقد خزن أبوها أمواله في هذا الدير لأن كل ما كان عنده شيء من نفائس الذخائر يضعه في ذلك الدير ، وقد رأيت فيه من أنواع الذهب والفضة والجواهر وسائر الألوان والتحف ما لا يحصي عدده إلا الله .
فأنتم أولى به من هؤلاء الكفرة ، فخذوا ما في هذا الدير وأنفقوه على المسلمين وخصوصاً المجاهدين .
ولما وصل هؤلاء التجار إلى القسطنطينية وباعوا بضاعتهم كلمتهم تلك الصورة التي في الحائط كرامة أكرمني الله بها فجاؤوا إلى ذلك الدير وقتلوا البطريق مطروحنا بعد أن عاقبوه أشد العقاب وشدوه من لحيته فدلهم على موضعي فأخذوني ولم يكن لهم سبيل إلا الهرب خوفاً من العطب .
وفي ليلة غد تأتي تماثيل إلى ذلك الدير على عادتها ويلحقها أبوها مع غلمانه لأنه يخاف عليها ، فإن شئتم أن تشاهدوا هذا الأمر فخذوني بين أيديكم وأنا أسلم لكم الأموال وخزانة البطريق دقيانوس التي في ذلك الجبل وقد رأيتهم يخرجون أواني الذهب والفضة يتسربون فيها ورأيت عندهم جارية تغني لهم بالعربي ، فواحسرتاه لو كان الصوت الحسن في قراءة القرآن ، وإن شئتم فادخلوا هذا الدير واكمنوا فيه إلى أن يصل دقيانوس وتماثيل معه ، فخذوها فإنها لا تصلح إلا لملك الزمان شركان وللملك ضوء المكان .
ففرحوا بذلك حين سمعوا كلامها إلا الوزير دندان فإنه ما دخل كلامها في عقله وإنما كان يتحدث معها لأجل خاطر الملك وصار باهتاً في كلامها ويلوح على وجهه علامة الإنكار عليها .
فقالت ذات الدواهي :
إني أخاف أن يقبل البطريق وينظر هذه العساكر في المرج فما يجسر أن يدخل الدير .
فأمر السلطان العسكر أن يرحلوا صوب القسطنطينية ، وقال ضوء المكان :
إن قصدي أن نأخذ معنا مائة فارس وبغالاً كثيرة ونتوجه إلى ذلك الجبل ونحملهم المال الذي في الدير .
ثم أرسل من وقته وساعته إلى الحاجب الكبير فأحضره بين يديه وأحضر المقدمين والأتراك والديلم وقال :
إذا كان وقت الصباح فارحلوا إلى القسطنطينية أنت أيها الحاجب تكون عوضاً عني في الرأي والتدبير ، وأنت يا رستم تكون نائباً عن أخي في القتال ولا تعلموا أحد أننا لسنا معكم وبعد ثلاثة أيام نلحقكم .
ثم انتخب مائة فارس من الأبطال وانحاز هو وأخوه الوزير دندان والمائة فارس وأخذوا معهم البغال والصناديق لأجل حمل المال .
-
رد: حكايات ألف ليله وليله
تكملة حكاية الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان
الليلة السابعة عشرة بعد المئة
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أنه لما أصبح الصباح نادى الحاجب بين العسكر بالرحيل فرحلوا وهم يظنون أن شركان وضوء المكان والوزير دندان معهم ولم يعلموا أنهم ذهبوا إلى الدير .
هذا ما كان من أمرهم .
وأما ما كان من أمر شركان وأخيه ضوء المكان والوزير دندان فإنهم أقاموا إلى آخر النهار ، وكان الكفار أصحاب ذات الدواهي رحلوا خفية بعد أن دخلوا عليها وقبلوا الأرض بين يديها ورجليها واستأذنوها في الرحيل فأذنت لهم وأمرتهم بما شاءت من المكر .
فلما جن الظلام قالت العجوز لضوء المكان هو وأصحابه :
قوموا معي إلى الجبل وخذوا معكم قليلاً من العسكر .
فأطاعوها وتركوها في سفح الجبل مع خمسة فوارس بين يدي ذات الدواهي وصار عندها قوة من شدة فرحها ، وصار ضوء المكان يقول :
سبحان من قوى هذا الزاهد الذي ما رأينا مثله .
وكانت الكاهنة قد أرسلت كتاباً على أجنحة الطير إلى ملك القسطيطينية تخبره بما جرى ، وقالت في آخر الكتاب :
أريد أن تنفذ لي عشرة آلاف فارس من شجعان الروم يكون سيرهم في سفح الجبل خفية لأجل أن لا يراهم عسكر الإسلام ويأتون إلى الدير ويكمنون فيه حتى أحضر إليهم ومعي ملك المسلمين وأخوه فإني خدعتهما وجئت بهما ومعهما الوزير ومائة فارس لا غير وسوف أسلم إليهم الصلبان التي في الدير وقد عزمت على قتل الراهب مطروحنا لأن الحيلة لا تتم إلا بقتله فإن تمت الحيلة فلا يصل من المسلمين إلى بلادهم لا ديار ولا من ينفخ النار ويكون مطروحنا فداء لأهل الملة النصرانية والعصبة الصليبية والشكر للمسيح أولاً وآخراً .
فلما وصل الكتاب إلى القسطنطينية جاء براج الحمام إلى الملك أفريدون بالورقة فلما قرأها أنفذ من الجيش وقته وجهز كل واحد بفرس وهجين وبغل وأمرهم أن يصلوا إلى ذلك الدير .
هذا ما كان من أمر هؤلاء .
وأما ما كان من أمر ضوء المكان وأخيه شركان والوزير دندان والعسكر ، فإنهم لما وصلوا إلى الدير دخلوه فرأوا الراهب مطروحنا قد أقبل لينظر حالهم فقال الزاهد :
اقتلوا هذا اللعين .
فضربوه بالسيوف وأسقوه كأس الحتوف ، ثم مضت بهم الملعونة إلى موضع النذور فأخرجوا منه التحف والذخائر أكثر مما وصفته لهم ، وبعد أن جمعوا ذلك وضعوه في الصناديق وحملوه على البغال وأما تماثيل فإنها لم تحضر هي ولا أبوها خوفاً من المسلمين فأقام ضوء المكان في انتظارها ذلك النهار وثاني يوم وثالث يوم ، فقال شركان :
والله إن قلبي مشغول بعسكر الإسلام ولا أدري ما حالهم .
فقال أخوه :
إنا قد أخذنا هذا المال وما أظن أن تماثيل ولا غيرها يأتي إلى هذا الدير بعد أن جرى لعسكر الروم ما جرى فينبغي أننا نقنع بما يسره الله لنا ونتوجه لعل الله يعيننا على فتح القسطنطينية .
ثم نزلوا من الجبل فما أمكن ذات الدواهي أن تتعرض لهم خوفاً من التفطن لخداعها ، ثم أنهم ساروا إلى باب الشعب وإذا بالعجوز قد أكمنت لهم عشرة آلاف فارس فلما رأوهم احتاطوا بهم من كل جانب وأسرعوا نحو الرماح وجردوا عليهم بيض السفاح ونادى الكفار بكلمة كفرهم وفرقعوا سهام شرهم .
فنظر ضوء المكان وأخوه شركان والوزير دندان إلى هذا الجيش فرأوه جيشاً عظيماً وقالوا :
من أعلم هذه العساكر بنا ?
فقال شركان :
يا أخي ما هذا وقت كلام بل هذا وقت الضرب بالسيف والرمي بالسهام .
فشدوا عزمكم وقووا نفوسكم فإن هذا الشعب مثل الدرب له بابان ، وحق سيد العرب والعجم لولا أن هذا المكان ضيق لكنت أفنيتهم ولو كانوا مائة ألف فارس .
فقال ضوء المكان :
لو علمنا لأخذنا معنا خمسة آلاف فارس .
فقال الوزير دندان :
لو كان معنا عشرة آلاف فارس في هذا المكان لا تفيدنا شيئاً ولكن الله يعيننا عليهم وأنا أعرف هذا الشعب وضيقه وأعرف أن فيها مفاوز كثيرة لأني قد غزوت فيه مع الملك عمر النعمان حين حاصرنا القسطنطينية وكنا نقيم فيه وفيه ماء أبرد من الثلج فانهضوا بنا لنخرج من هذا الشعب قبل أن يكثر عليها عساكر الكفار ويسبقونا إلى رأس الجبل فيرموا علينا الحجارة ولا نملك فيهم إرباً .
فأخذوا في الإسراع من ذلك الشعب فنظر إليهم الزاهد وقال لهم :
ما هذا الخوف وأنتم قد بعتم أنفسكم لله تعالى في سبيله ، والله إني مكثت مسجوناً تحت الأرض خمسة عشر عاماً ولم أعترض على الله فيما فعل بي ، فقاتلوا في سبيل الله فمن قتل منكم فالجنة مأواه ومن قتل فإلى الشرف مسعاه .
فلما سمعوا من الزاهد هذا الكلام زال عنهم الهم والغم وثبتوا حتى هجم عليهم الكفار من كل مكان ولعبت في أعناقهم السيوف ودارت بينهم كأس الحتوف وقاتل المسلمون في طاعة الله أشد قتال وأعملوا في أعدائهم الأسنة والنصال وصار ضوء المكان يضرب الرجال ويجندل الأبطال ويرمي رؤوسهم خمسة خمسة وعشرة عشرة حتى أفنى منهم عدداً لا يحصى ورجالاً يستقصى فبينما هو كذلك إذ نظر الملعونة وهي تشير بالسيف إليهم وتقويهم جانب وكل ما خاف يهرب إليها وصارت تومئ إليهم بقتل شركان فيميلون إلى قتله فرقة بعد فرقة وكل فرقة حملت عليه يحمل عليها ويهزمها وتأتي بعدها فرقة أخرى حاملة عليها فيردها بالسيف على أعقابها ، فظن أن نصره عليهم ببركة العابد وقال في نفسه :
إن هذا العابد قد نظر إلي بعين عنايته وقوى عزمي على الكفار بخالص نيته فأراهم يخافونني ولا يستطيعون الإقدام علي بل كلما حملوا علي يولون الأدبار ويركنون إلى الفرار .
ثم قاتلوا بقية يومهم إلى آخر النهار ولما أقبل الليل نزلوا في مغارة من ذلك الشعب من كثرة ما حصل لهم من الوبال ورمي الحجارة وقتل منهم في ذلك اليوم خمسة وأربعون رجلاً ولما اجتمعوا مع بعضهم فتشوا على ذلك الزاهد فلم يروا له أثر فعظم عليهم ذلك وقالوا :
لعله استشهد .
فقال شركان :
أنا رأيته يقوي الفرسان بالإشارة الربانية ويعيدهم بالآيات الرحمانية .
فبينما هم في الكلام وإذا بالملعونة ذات الدواهي قد أقبلت وفي يدها رأس البطريق الكبير الرئيس على العشرين ألفاً وكان جباراً عنيداً وشيطاناً مريداً وقد قتله رجل من الأتراك بسهم فعجل الله بروحه إلى النار فلما رأى الكفار ما فعل ذلك المسلم بصاحبهم مالوا بكليتهم عليه وأوصلوا الأذية إليه وقطعوه بالسيوف فعجل الله به إلى الجنة .
ثم إن الملعونة قطعت رأس ذلك البطريق وأتت به وألقته بين يدي شركان والملك ضوء المكان والوزير دندان ، فلما رآها شركان وثب قائماً على قدميه وقال :
الحمد لله على رؤيتك أيها العابد المجاهد الزاهد .
فقالت :
ولدي إني قد طلبت الشهادة في هذا اليوم فصرت أرمي روحي بين عسكر الكفار يهابونني فلما انفصلتم أخذتني الغيرة عليكم وهجمت على البطريق الكبير رئيسهم وكان يعد بألف فارس فضربته حتى أطحت رأسه عن بدنه ولم يقدر أحد من الكفار أن يدنو مني وأتيت برأسه إليكم .