الأعجاز البلاغي في القرآن الكريم !!!
الذكروالحذف في الحروف......
من روائع البيان القرآني المعجز أنه يحذف حرفاً من بعض ألفاظه في موضع ويذكره في موضع آخر، وحذف هذا الحرف ليس حذفاً اعتباطياً كما أن ذكره ليس مصادفة عشوائية إنما ذكره لحكمة وحذفه لحكمة.
وهناك أغراض يذكرها أهل اللغة في هذا الباب فيقولون : زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى إلى غيرها من الأغراض العربية وفي القرآن نجد من هذا كثيراً ولكن يحكمه التوازن الدقيق ليس في بعض أبوابه بل في كل أبوابه.
ولننظر إلى بعض الأمثلة في حكمة ذكر أو حذف بعض حروف الكلمات في القرآن الكريم :
المثال الأول : " تسطِعْ " و " تستطع "
وردت هاتان الكلمتان في قصة موسى والخضر حيث رافق موسى الخضر وأمره بعدم سؤاله عما يفعله فكان يفعل أموراً يرى موسى أن الخضر فيها مخالف فينكر عليه، فقال له بعد إنكاره الفعل الثالث : هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً [ الكهف : 78 بإثبات التاء ] .
ثم نبأه بتأويل أفعاله وأخبره أنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي " ثم قال له : ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَالَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً [ الكهف : 82 ] بحذف التاء.
وجه الإعجاز البلاغي هنا أن المرة الأولى كان موسى في قلق محيِر جرّاء أفعال الخضر فراعى السياق القرآني الثقل النفسي الذي يعيشه موسى عليه السلام فأثبت التاء ليتناسب مع الثقل النفسي لموسى، الثقل في نطق الكلمة بزيادة الحرف.
وحذفه في المرة الثانية بعد زوال الحيرة وخفة الهم عن موسى ليتناسب خفة الهم مع خفة الكلمة بحذف الحرف الذي ليس من أصل الكلمة.
المثال الثاني : " اسطاعوا " و " استطاعوا "
جاءت هاتان الكلمتان في سورة الكهف في الحديثعن السد الذي بناه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج وأنه بعد أن بناه عليهم كي يمنع فسادهم أرادوا الخروج فحاولوا تسلق السد فلم يفلحوا ثم حاولوا أن ينقبوه أو يخربوه فلم يستطيعوا كذلك، قال تعالى : فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً [ الكهف : 97 ] .
فلماذا حذف التاء في الأولى وأثبته في الثانية ؟. يظهر والله أعلم أن ذلك ليتناسب مع السياق فتسلق السد شيء لطيف يحتاج إلى لطف وخفة فناسب حذف التاء والنقب والخراب شيء ثقيل يحتاج إلى جهد وقوة ومعدات ثقيلة
فناسب ذكر التاء ليكون ثقل الكلمة مناسب لثقل الفعل وخفة الكلمة مناسب لخفةالفعل فسبحان القائل : ُقل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ الإسراء : 88 ] .
وذكر الدكتور فاضل السامرّائي بعض حالات ذكر وحذف الحرف في القرآن الكريم فقال : نذكر من حالات ذكر وحذف الحرف في القرآن الكريم حالتين :
الأولى : عندما يحتمل التعبير ذكر أكثر من حرف، ومع ذلك يحذفه، والثانية عندما لا يحتمل التعبير ذكر حرف بعينه.
الحالة الأولى : وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ النمل : 91 ] يحتمل أن يكون المحذوف ( الباء ) ؛ لأن الأمرعادة يأتي مع حرف الباء ( أمرت بأن ) كما في قوله تعالى ( تأمرون بالمعروف ) كما يحتمل التعبير ذكر حرف اللام ( وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) فلماذا حذف؟
هذا ما يسمى التوسع في المعنى وأراد تعالى أن يجمع بين المعنيين ( الباء واللام ) فإذا أراد التخصيص ذكر الحرف وإذا أراد كل الاحتمالات للتوسع في المعنى يحذف.
مثال : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَق [ الأعراف : 169 ] . في الآية حرف جر محذوف، يحتمل أن يكون ( في ) ( ألم يؤخذ عليهم في ميثاق الكتاب ) ،
ويحتمل أن يكون ( اللام ) ( ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب لئلا يقولواعلى الله إلا الحق ) ويحتمل أن يكون ( على ) ( ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب على ألا يقولوا على الله إلا الحق ) ويحتمل أن يكون بالباء ( ألم يؤخذ عليكم ميثاق الكتاب بألا يقولوا على الله إلا الحق )
الحالة الثانية : يحذف الحرف في موقع لا يقتضي إلا الحذف بالحرف، والذكر يفيد التوكيد بخلاف الحذف ( مررت بمحمد وبخالد ) أوكد من ( مررت بمحمد وخالد ) .
مثال من القرآن الكريم : في سورة آل عمران قال تعالى : إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [ آل عمران : 141،142 ] .
إذا كان التعبير يحتمل تقدير أكثر من حرف يُحذف للتوسع في المعنى وعندما لايحتمل إلا حرفاً بعينه فيكون في مقام التوكيد أو التوسع وشموله : إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [ آل عمران : 142 ]
ذكرت اللام في كلمة ( ليعلم ) وحذفت في كلمة ( يتّخذ ) ، الآية الأولى نزلت بعد معركة أحد ( ليعلم الله الذين آمنوا ) غرض عام يشمل كل مؤمن ويشمل عموم المؤمنين في ثباتهم وسلوكهم أي مما يتعلق به الجزاء ولا يختص به مجموعة من الناس فهو غرض عام إلى يوم القيامة والله أعلم.
وهذا علم يتحقق فيه الجزاء. أما في قوله ( يتخذ منكم شهداء ) ليست في سعة الغرض الأول فالشهداء أقل من عموم المؤمنين. وكذلك في قوله تعالى في سورة آل عمران : وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [ آل عمران : 141 ] ذكرت في ( ليمحص ) ولم تذكر في ( يمحق ) .
غرض عام سواء في المعركة ( أحد ) أو غيرها لمعرفة مقدار ثباتهم وإخلاصهم وهو أكثر اتساعاً وشمولاً من قوله تعالى : ( ويتخذ منكم شهداء ) ويمحق الكافرين ليست بسعة ( ليمحص الله ) لم تخلو الأرض من الكافرين ولم يمحقهم جميعاً.
وزوال الكافرين ومحقهم على وجه العموم ليست الحال وليست بمقدار الغرض الذي قبله. ( ليعلم الله ) غرض كبير متسع وكذلك قوله تعالى ( ليمحص الله ) إنما قوله تعالى : ( يتخذ منكم ) و ( يمحق الكافرين ) فالغرض أقل اتساعاً لذا كان حذف الحرف ( لام )
.
أما في قوله تعالى : وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [ آل عمران : 154 ] . هنا الغرضين بدرجة واحدة من الإتساع ولهذا وردت اللام في الحالتين.
شكراً لكم
